الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أحمد شيخو يكتب: العلاقات الديمقراطية أعمدة الاستقرار والأمن

صدى البلد

بات واضحاً وخاصة بعد القرنيين الاخيرين تماماً أنه لا يمكن التوصل إلى حلول صائبة وديمقراطية لدى تناول العلاقات بين شعوب ومجتمعات المنطقة وعلى رأسها العلاقات العربية-الكردية و التركية–الكردية وفق المنظور القوميّ والدولتيّ والسلطويّ، ما لم تؤخذ  الترابط  والتفاعل و العرى الجيوسياسية والجيوستراتيجية لميزوبوتاميا وبلاد الشام وشبه الجزيرة العربية ومصر والأناضول بعين الحسبان. هذا وثمة تبادل ثقافيّ كثيف وتكامل يحدّد المقاربات الجيوسياسية والجيوستراتيجية الوثيقة المتّبعة طيلة التاريخ بين الساحات الثلاثة اللواتي قطنها وتركّز فيها المجتمعات الكردية والعربية والتركية وغيرها، ولعل متطلبات الأمن القومي لهذه الشعوب والمناطق والدول فيها وكذلك المسارت التاريخية والجغرافية للأنبياء والرسل من زرادشت وإدريس ونوح وإبراهيم إلى موسى وعيسى ومحمد إنما تعكس وتبين الترابط والتفاعل المتبادل و الواضح بين شعوب المنطقة التي تسكن هذه الساحات المهمة في العالم.

وعليه، من غير الممكن صياغة  قراءة وتحليل صحيح لتلك العلاقات التي تخطّ مصير الحاضر واللحظة والمستقبل، إلا بمعالجة كلية متكاملة. فغالباً ما ربطت الشريحة الكردية الهرمية العليا (التي واجهت إشكاليات السلطة والدولة بالأكثر) مصيرها على مدار التاريخ وأقلها في القرنين الاخريين بمصير السلطات والدول الأقوى منها بناء على استقلال ذاتي نسبيّ. ولم تندفعْ كثيراً وراء نظام سلطة أو دولة منفصلة خاصة بالمجتمع الكرديّ. فهكذا مبادرة لم تتماش ومصالحها في هذه الوجهة، بسبب الظروف التاريخية والاجتماعية السائدة. وانطلاقاً من هذا المنظور تم معالجة التاريخ المشترك للكرد مع العرب و الأتراك، والذي يمتدّ طيلة السنوات الألفيين الأخيرة تقريباً. وبخوضهم معركة حطين و ملازكرد طوعاً، والتي توّجوها بالنصر المؤزر جنباً إلى جنب مع الشعوب العربية والتركية وشعوب المنطقة، حقّقوا مشاطرتهم لسلطة ودولة جديدتين على دعامة إسلامية تسود بلاد الشام والجزيرة العربية ومصر و الأناضول وميزوبوتاميا وبالمركز منها كردستان. ذلك أنّ الحقائق الجيوسياسية والجيوستراتيجية النابعة من تلك المناطق، قد جعلت مشاطرة السلطة والدولة الإسلامية بين الشرائح الفوقية للقوميات الثلاثة ضرورة اضطرارية. ورغم عدم وجود مصلحة ملحوظة للشعوب في تشاطر السلطة والدولة، ورغم ردّهم على العيش تحت السقف المشترك للسلطة والدولة بالمقاومة مراراً وتكراراً؛ إلا إنهم لم يتخلفوا عن العيش معاً بموجب لوازم الحياة المشتركة من جهة، وبسبب الحروب الدينية والمذهبية المندلعة حينذاك من جهة ثانية. ولطالما تأسست هذه الشراكة بين الهرمية التركية القومية العليا والسلطات العربية الفوقية والشريحة الكردية العليا على الطواعية. بينما لا نلمس كثيرا ظاهرة اسمها "غزو كردستان" ضمن تقاليد الفتح العربي والتركيّ. أما حروب الغزو المخاضة بين الفينة والأخرى، فلم تحصلْ إلا بمشاركة من  الأعيان الكرد. وعليه، لا يمكن توصيف هذا النمط من الحروب بالغزو.

ينبغي الفهم العميق لهذا الواقع التاريخيّ في علاقات شعوب المنطقة وخاصة العلاقات العربية-الكردية و العلاقات التركية-الكردية على صعيد حلّ القضية الكردية في راهنناً. فقد عمل أساسا بهذا الواقع، الذي لعب دورا معيّنا في نهاية كلّ منعطف أو نقطة تقاطع أساسية على طول تاريخ هذه العلاقات. أي: أثناء سياسة انفتاح الإمبراطورية العثمانية على الشرق في عهد السلطان ياووز سليم (1512–1521)، وفي تشكيل الألوية الحميدية في عهد السلطان عبد الحميد (1876–1909)، وأثناء انخراط جمعية الاتحاد والترقي العثمانية في الحرب العالمية الأولى وما بعدها كأمر واقع لا مناصّ منه؛ والأهمّ من كلّ ذلك خلال حرب التحرير الوطنية المعاصرة بقيادة مصطفى كمال، وكما أثناء التحالف التاريخي العربي الكردي الاستراتيجي أيام العباسيين وأبو مسلم الخرساني الكردي  وكما أيام الناصر صلاح الدين الأيوبي وتحرير بيت المقدس و كذلك تعاون إبراهيم باشا ومحمد علي باشا ولاة مصر الكرد مع الإمارات الكردية مع إمارة بدرخان وإمارة رواندوز أثناء سحقهم للجيش العثماني ووصولهم لقرب اسطنبول، وكما في التعاون  والنضال المشترك أثناء ثورات تحرير المنطقة من الاستعمار الفرنسي والإنكليزي ومقاومتهم كما في سوريا والعراق ولبنان و والإردن وفلسطين وغيرها ولعل الواقعة البطولية لوزير الحربية في سوريا يوسف العظمة الكردي الذي استشهد وهو يدافع عن دمشق في معركة ميسلون 24 تموز عام 1920 في وجه الاحتلال الفرنسي خير وأوضح دليل، بالإضافة إلى إسهام الكرد  كأفراد ومجتمعات في بناء الدول العربية الحالية لبقائهم فيها وإسهامهم في بناء معالمها وصروحها، حيث كانت المنطقة سابقاً حرة التجوال والسكن بين البلدان المسلمة بمختلف أقطارها من ميزوبوتاميا والأناضول إلى الحجاز ومصر والمغرب وغيرها . 

 

ولأول مرة عمل على وقف هذا التمثيل المشترك والطوعيّ والتاريخيّ والجغرافيّ في سيادة السلطة والدولة؛ بعد تقسيم المنطقة من قبل التدخلات الخارجية وعلى رأسها البريطاني والفرنسي مع التوافق الروسي و وضخ الفكر القوموي والإسلاموي وبناء الدولة القومية الأداة والآلة المستخدمة في تقسيم جغرافية وشعوب المنطقة والشرق الأوسط و البعيدة كل البعد عن القيم المجتمعية والأخلاقية والثقافية المشتركة للمنطقة وشعوبها، وعندها حكمت سلطات لاتعبر حتى عن إرادة الشعب العربي التي تكلمت واحتكرت إسمها لأغراض السلطة وخدمة الغريب البعيد والقوى المهيمنة العالمية دون مصالح الشعب العربي وتحالفاته وعيشه المشترك مع الكرد وشعوب المنطقة. إنّ تصيير سلطات الدويلات القومية العربية مناوئة للكرد قد أخلّ  بالعلاقات التاريخية والشراكة الاستراتيجية وبالتحالف التقليديّ بين الشعبين، فأقصي الكرد كليا من النظام القائم في هذه الدويلات وتم منع خصوصياتهم وثقافتهم ولغتهم وإدارتهم الذاتية كحقوق طبيعية وعادلة لهم. أما المشروع المقدّم إلى الشريحة الكردية الفوقية، فأستند إلى المبدأ الأساسيّ الذي يتجسد في إمكانية صونها لوجودها ومصالحها الخاصة كأفراد–مواطنين للدويلات القومية العربية وليس كون لهم مجتمعات لها حقوقها أيضاً، مقابل التخلي عن كردايتيتها وهوية مجتمعها الكردي والإنصهار في بوتقتهم وقبول التعريب لمناطقهم وثقافتهم وخصوصا في سوريا والعراق وغيرها.

 

 و في تركيا كان ذلك عبر مؤامرة 15 شباط 1925 التي تشير إلى رفض العماد الديمقراطيّ للجمهورية والدولة المنشأة كدولة للشعبين الكردي والتركي وشعوب ميزوبوتاميا والأناضول. وحسابات الإمبراطورية الإنكليزية –القوة الرأسمالية المهيمنة آنذاك– في فرض التمييز الأثنيّ على الجمهورية، كي تتمكن بالتالي من بسط نفوذها على الموصل وكركوك ( باشور كردستان/إقليم كردستان العراق) التي تعدّ منطقة نفطية؛ قد لعبت دوراً محدّداً ومصيرياً في حبك خيوط هذه المؤامرة. وهكذا، حقق مشروع إنكلترا في بناء جمهوريات صغرى أو دويلات قومية صغيرة نجاحاً ملفتاً في الشرق الأوسط وبلاد الشام والحجاز شمال أفريقيا وبلاد الأناضول وميزوبوتاميا مع تقسيم كردستان بينها، مثلما كانت الحال في أغلب أصقاع العالم. وبالمقابل، فإنّ جميع القوى الثقافية والشعوب، بل وحتى الدول القائمة في منطقة الشرق الأوسط المقسّمة اجتماعياً وعلى صعيد الدول، قد منيت بخسائر فادحة في قواها، وتعرضت للانقسام المتواصل، واشتبكت فيما بينها باستمرار، لتغدو واهنة خائرة القوى. وقد أحرزت الهيمنة الإنكليزية نجاحها تأسيساً على ذلك.

وعندما أصبحت ماتسمى الجمهورية التركية مناوئة للكرد قد أخلّ بالتحالف التقليديّ بين الكرد والترك، فأقصي الكرد كلياً من النظام القائم. وكان المشروع المقدّم إلى الشريحة الكردية الفوقية هنا، فيستند إلى المبدأ الأساسيّ الذي يتجسد في إمكانية صونها لوجودها كأفراد–مواطنين أتراك، مقابل التخلي عن كردايتيتها وعن هويتها الكردية الأصيلة. بل ويتعدى ذلك بالغا حدّ تلقينها أنّ السبيل إلى اكتساب القوة والارتقاء في أروقة النظام يمرّ من إعلاء شأن التركياتية البيضاء وتطويرها، مقابل إنكار الكردايتية وإبادتها. وهكذا يصاغ "القانون الفولاذيّ" لكينونة الوجود ضمن الجمهورية. في حين إنّ الموقف الذي أبدته الشريحة العليا بادئ ذي بدء من خلال اعتراضها وتمردها الجزئيّ، قد تحوّل إلى طاعة أفرزتها تمشيطات "التأديب والتنكيل" الصارمة التي سيّرها النظام. ولربما كانت هذه المرة الأولى في تاريخ المجتمع الكرديّ، التي تضمن فيها الشريحة العليا (الاستثناء لا ينفي القاعدة) وجودها مقابل تعريض وجود مجتمعها الذاتيّ الذي تنتمي إليه للإنكار والإبادة والاجتثاث من الجذور. وهكذا باتت تدين بوجودها وتطورها إلى مدى خدمة التركياتية البيضاء وهذا المصطلح، مختلف عن التركياتية التقليدية. فهي زمرة عميلة معدّة موضوعيا وذاتياً، ومصقولة بأساليب الهيمنة الغربية في التآمر. إنها شكل متطرف من أشكال فرنسيي المشرق، مشحون بالعنف إلى أقصى الحدود، ومتظاهر بالقوموية التركية الجازمة. أي إنّ تلك الشريحة ستحمي وجودها وتطوّره بحسب ما تقوم بخدمة هذه التركياتية البيضاء.

أما الشرائح الشعبية الأخرى، التي أمست بلا رأس أو قائد، فهي بمنزلة المادة الشيء، ومنفتحة على كلّ أشكال الإنكار والإبادة والإذابة. في حين إنّ أبسط تماس مع الكردايتية يعني الموت المحتوم. بالمقابل، فالتخلي عن الكردايتية بات السبيل الوحيد للنجاة والحياة. وهكذا، تدور المساعي للقضاء على الكردايتية، ليس من جهة كونها ظاهرة فحسب، بل وبكلّ ما تشتمل عليه من رموز ومسمّيات. ويدخل مشروع التطهير الثقافيّ الخفيّ المسلّط على الكردايتية طيلة تاريخ الجمهورية جدول الأعمال، ويرى النور خطوة وراء خطوة ويوما بعد يوم (يسري هذا المشروع على كافة الثقافات الأخرى أيضا. ولكنه صمّم أساساً من أجل الكردايتية). وأمست الغاية الأولية التي تصبّ فيها جميع السياسات الداخلية والخارجية، هي الامتثال لذاك "القانون الفولاذيّ"، والسهر على خدمته. ونظراً لتطبيقه خفية بنسبة كبرى، فإنّ الأحزاب ومنظمات المجتمع المدنيّ المشادة والعالم الاقتصاديّ والسياسيّ المعاش يصبح متمحوراً حول "القانون الفولاذيّ" ذاته، دون إدراك منها، ودون التفات إلى تلك السياسات. كما تقيّم التنظيمات الخارجية أيضا بناء على خدمة "القانون الفولاذيّ" نفسه؛ من قبيل: هيئة الأمم المتحدة، حلف الناتو، والاتحاد الأوروبيّ وروسيا والصين. كما إنّ حصة هذا القانون معيّنة في الانقلابات والمؤامرات والاغتيالات، وفي شتى أنواع التعذيب والاعتقال.

ولم تكتفي السلطات في الدولة والجمهورية التركية بممارسات الإبادة والإنكار في داخل تركيا وحدها ضد الكرد بل وفي عهد أردوغان وسلطته المشكلة حزب الحركة القومية التركية الفاشية تجاوز ذلك إلى محاربة الكرد إينما كان كما في سوريا والعراق واستعماله السلاح الكيميائي ضد أبناء وبنات الشعب الكردي  من الكريلا في قوات الدفاع الشعبي الكردستاني  HPGووحدات المرأة الحرة الكردستانية YJA-STAR المدافعين عن وجود وحرية وكرامة الشعب الكردي وشعوب المنطقة ضد الفاشية التركية وحتى أن الدولة التركية استعملت كل إمكانياتها حتى ينظر شعوب المنطقة ودولها والعالم للقضية الوطنية الكردية وللنضال الكردي من اجل الحرية والديمقراطية والحقوق بالنظرة والعدسة التركية المشوهة والمضللة.

 وعليه لكي تعود العلاقات العربية والكردية وكذلك التركية والكردية وغيرها إلى التحالف التقليدي الديمقراطي والشراكة الاستراتيجية و ربما في مراحل متقدمة إلى كونفدرالية ديمقراطية للأمم الديمقراطية في المنطقة والشرق الأوسط، لابد من التخلص من عدسة ونظرة الدولة التركية والتخلص من ذهنيات وسلوكيات الإبادة والإنكار و تجاوز المقاربة والسلوك والبعد القوموي والسلطوي والدولتي الوظيفي للهيمنة العالمية ونهبها للمنطقة وخيراتها و مرور دول المنطقة وخاصة وأولاً تلك التي تمتاز بالتعدد الاثني والقومي والديني والمذهبي بالتحول الديمقراطي وولوج درب الديمقراطية والتخلص من التزمت والصرامة المطلقة وتفضيل المرونة والحوار والتفاوض السلمي على الحلول العسكرية والأمنية وإعطاء مساحة أكبر للمجتمعات والشعوب المختلفة مقابل الدولة والسلطة والمركزية الشديدة وإعطاء كذلك حقوقها في التعبير والتنظيم والحماية الذاتية وإدارة مناطقها ضمن الحدود الحالية وفق كيانات سياسية واقتصادية واجتماعية شرعية تستند لأبعاد جغرافية وإجتماعية في دساتير ديمقراطية حتى نستطيع إعادة بناء تكامل المنطقة ووحدتها الكلية ومجتمعيتها المقاومة وثقافتها الواحدة على أسس حقيقية متينة ومصالح مشتركة لكافة شعوبها ومجتمعاتها.

كما أن بناء علاقات بين شعوب المنطقة وفق قيم مجتمعية وثقافية واقتصادية مجتمعية وبفلسفة ديمقراطية ودبلوماسية اجتماعية موفقة، ودخول هذه العلاقات المنى والمسار الاستراتيجي بين مجتمعات وشعوب ودول المنطقة أي بناء العلاقات الديمقراطية سيسهم في  تعزيز الأمن والسلم والاستقرار في المنطقة وكذلك في مواجهة الأحادية المطلقة والنمطية والتطرف والإرهاب، وعندها لن تكون المجتمعات معرضة للتسلل والتغلل فيها من قبل الأعداء سواء من الداخل أو الخارج ولن تكون الدول في المنطقة مجبرة على الرضوخ وتقبل التدخلات  والأجندات الخارجية حيث بالحلول الديمقراطية للقضايا الوطنية وعلى رأسها القضية الكردية والقضايا الاقتصادية والديمقراطية وغيرها، ستكون هذه الدول والبلدان محمية ومصانة من شعوبها وأبنائها ومن كل المنطقة ولأنها لن تكون بحاجة إلى خوض حروب مستمرة ضد داخلها ومحيطها خدمة للأخريين منطلقة من ذهنيتها المطلقة القوموية والأسلاموية للحفاظ على وجودها في السلطة وشرعيتها الدولية الممنوحة لها بقدر تبعيتها للنظام العالمي وتنفيذ أجندته.