قبل 21 عامًا، كان مشهد احتماء الطفل الشهيد محمد الدرة خلف والده من رصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي، ولا يزال حاضرًا في عقول وأذهان الفلسطينيين والشعوب العربية، وأحرار العالم، كأيقونة ورمز للانتفاضة الثانية «انتفاضة الأقصى»، وكان العالم أجمع شاهدًا على جريمة قتل جنود الاحتلال للطفل محمد الدرة «12 عامًا» على الهواء مباشرة في 30 من سبتمبر عام 2000، إلا أن ذلك لم يمنع الاحتلال من مواصلة جرائمه بحق الشعب الفلسطيني، خاصة الأطفال منهم، فاستشهد منذ ذلك التاريخ، وحتى اليوم 2194 طفلًا، بحسب الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال.
مولد مشروع شهيد
ولد محمد الدرة في 22 نوفمبر 1988، ودرس حتى الصف الخامس الابتدائي، وعاش في كنف أسرة بسيطة لاجئة من مدينة الرملة، والده يعمل نجارًا ووالدته ربة منزل، لاحقًا بعد استشهاده رزقت عائلته بطفل أطلقت عليه اسم محمد تيمنًا بشقيقه.
واستشهد الدرة بعد يومين من اندلاع الانتفاضة الثانية في 28 سبتمبر 2000، بعد اقتحام زعيم حزب الليكود المتطرف «أرئيل شارون» باحة المسجد الأقصى برفقة حراسه، حيث استمرت الانتفاضة حتى بداية عام 2005، وسقط خلالها أكثر من 4400 شهيد، و 50 ألف مصاب، بينما قُتل 1100 إسرائيلي، بينهم 300 جندي، وجُرح نحو 4500 آخرين.
ووقعت انتفاضة الأقصى بعد أسبوعين من مفاوضات في كامب ديفيد، لم تتوصل إلى حل سلمي للصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، وتميزت الانتفاضة الثانية مقارنة بالأولى التي اندلعت عام 1987، بكثرة المواجهات وتصاعد وتيرة الأعمال العسكرية بين الفصائل الفلسطينية وجيش الاحتلال.
مات الولد فداء البلد
خرج جمال الدرة، صباح 30 سبتمبر 2000، من منزله في مخيم البريج بقطاع غزة، مع طفله «محمد» إلى مزاد للسيارات، حتى يقتني واحدة، وفجأة وجد نفسه محاصرًا ومستهدفًا بنيران جنود الاحتلال الإسرائيلي في شارع صلاح الدين، وتمكن جمال من الاختباء خلف برميل أسمنتي وأسند صغيره محمد خلفه، وكان يصرخ على جنود الاحتلال لوقف إطلاق النار إلا أن صرخاته لم تجد صدى.
عشرات الرصاصات طالت كل ما حولهما، ووصلت إلى الجسد والأقدام والأيدي حتى الحوض، واخترقت بطن محمد الذي صرخ والده: «مات الولد.. مات الولد»، وأصيب والده بجروح، في مشهد هز العالم ووثق بالفيديو لمدة 63 ثانية، بعدسة مصور قناة فرانس2، طلال أبو رحمة، الذي قال في شهادة خطية له بعد أيام من الواقعة، إن المتظاهرين الفلسطينيين تجمعوا من مختلف الأنحاء في تمام السابعة من صباح يوم 30 سبتمبر، وألقوا الحجارة وقنابل المولوتوف فأطلق الجيش الإسرائيلي الرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع.
59 ثانية هزت ضمير العالم
ذكر طلال أبو رحمة، أنه قد صور 27 دقيقة من الأحداث التي استمرت 35 دقيقة، وتركزت حوالي 64 ثانية من اللقطات على جمال الدرة وابنه محمد، وتم تحرير الشريط للبث لتصل مدته إلى 59 ثانية، تعرض مشهد الدرة، ثم أضاف شارل إندرلان رئيس القناة تعليقًا صوتيًا.
وكان هناك العديد من مصوري الوكالات، ولكن عدسة أبو رحمة التقطت وحدها اللحظة الحاسمة التي وقعت فيها الحادثة، مؤكدا أن محمد ظل ينزف لمدة 17 دقيقة على الأقل، قبل أن تصل سيارة الإسعاف وتحمله، رغم عدم رفع أي فيلم لهذا المشهد.
ووصف ضابط الإسعاف «علي خليل» مشهد استشهاد الطفل قائلًا: «كمية الرصاص التي أطلقها جيش الاحتلال كانت كبيرة جدًا، ولم تفلح محاولات الوصول إلى محمد ووالده»، مضيفا «رغم التحذيرات بخطورة المجازفة، بقينا أنا وزميلي الشهيد بسام البلبيسي داخل سيارة الإسعاف نحاول البحث عن طريق آخر، لكن فجأة وضع بسام يده على قلبه وقال: علي أنا أصبت.. اسعفني، ثم أرخى رأسه إلى الخلف وهو ينزف، وارتقى شهيدا».
انضمام 2194 طفلًا إلى الدرة في الجنة
حاول الاحتلال وجهات يمينية متطرفة التنصل من الجريمة، إلا أن صحفي يدعى «أندرلان» أورد في كتابه «موت طفل» اعتراف قائد العمليات في الجيش الإسرائيلي «جيورا عيلاد» الذي صرح لهيئة الإذاعة البريطانية «BBC» في3 أكتوبر2000،بأن الطلقات جاءت على ما يبدو من الجنود الإسرائيليين.
وتصدرت قصة محمد الصحف والمواقع العالمية، بعد توثيق الحادثة، ولم تكن الأخيرة، ففي العام نفسه استشهد 94 طفلًا، وفي العام التالي استشهد 98 طفلًا، وفي عام 2002 اسشهد 192 طفلًا، و130 طفلا شهيدًا في 2003، و162 شهيدًا في عام 2004، ومنذ عام 2000 إلى اليوم استشهد 2194 طفلًا، غالبيتهم من قطاع غزة، ولا يزال يتواصل استهداف جيش الاحتلال لأطفال فلسطين، حيث نقلت وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا» عن عايد قطيش مدير برنامج المساءلة في الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال، أنه ومنذ بداية العام الجاري استشهد 74 طفلًا، 61 منهم في قطاع غزة و13 في الضفة الغربية والقدس.