أصدر المركز المصري للدراسات الاقتصادية، اليوم الثلاثاء، ورقة عمل بعنوان: "الإعداد السليم للموازنة العامة كمحرك للتغيير: تحليل تفصيلي مقارن في ضوء أفضل المعايير والممارسات الدولية"، بهدف دراسة مدى سلامة إدارة الموازنة العامة، والتي تعد - إذا ما تم إعدادها بشكل صحيح - محركا أساسيا من محركات التغيير في مصر.
وتقيم الدراسة في الجزء الأول مدى تحقق المبادئ الدولية الستة الأساسية (الشمول والشفافية والواقعية والاتساق والترابط والمساءلة) الصادرة عن صندوق النقد الدولي في الموازنة المصرية، وكذلك دراسة مدى الاتساق بين الموازنة من ناحية والدستور وخطة الدولة الاقتصادية والاجتماعية من ناحية أخرى. ويتناول الجزء الثاني من الدراسة تحليلا تفصيليا مقارنا للإيرادات والمصروفات خلال الفترة 2010/2011– 2021/2022 (سنوات متفرقة)، بالإضافة إلى تقييم المشروعات الممولة بالمنح والقروض؛ وذلك بهدف الإجابة بوضوح على السؤال: من أين يأتي المال العام في مصر وفيم يُنفق؟ بينما يستعرض الجزء الثالث أهم المشكلات التي أظهرها التحليل والحلول اللازمة لعلاجها.
وانتهت الدراسة إلى وجود عدد من أوجه القصور في تطبيق جميع هذه المبادئ شديدة الارتباط ببعضها البعض، ومنها على سبيل المثال، الإخلال بمبدأ الشمول لوجود الكثير من الكيانات من صناديق وهيئات اقتصادية خارج الموازنة العامة للدولة. كما أن عدم ظهور الاحتياطات والضمانات بشكل واضح يسهل فهمه في الموازنة قد أضر بمبدأ الشفافية، كما تعاني الموازنة المصرية من ضعف واقعيتها؛ حيث لوحظ عدم التغير في مخصصات العديد من بنودها.
وانعكست هذه الاختلالات بوضوح على مدى تحقق مبدأ الاتساق بين الموازنة والحساب الختامي؛ فهناك عدم دقة واضحة في تقدير المخصصات والذي اتضح من خلال ملاحظة إجراء تعديلات ملموسة على القيم المربوطة في الأصل في الموازنة بل واختلافها بفروقات كبيرة في الكثير من الحالات بالزيادة أو النقصان عن القيم الفعلية المدرجة بالحساب الختامي. وتثير هذه الفروقات الكثير من التساؤلات لأسباب عدة، من أهمها ارتفاع قيمها، وتكرارها عبر السنوات المختلفة، وظهورها لالتزامات محددة سلفا كالفوائد على سبيل المثال، أو لبنود حيوية للمواطن المصري كالدعم والمزايا الاجتماعية، أو أدوات الاقتراض من إصدار للأوراق المالية الأجنبية.
وأشارت الدراسة إلى عدم التحقق السليم لمبدأ الترابط بين عدد من بنود الموازنة والاستحقاقات الدستورية وخطة الدولة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لنفس البنود، حيث لا تعكس بالشكل المرجو مخصصات الإنفاق في الموازنة ما نص عليه الدستور وما جاء بخطة الدولة ومستهدفاتها. ومن الأمثلة التي اتخذتها الدراسة على ذلك، انخفاض المخصصات الحقيقية لقطاعي التعليم والصحة عن المنصوص عليه في الدستور المصري ومستهدفات خطة الدولة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لهذين القطاعين.
وتناول الجزء الثاني من الدراسة بالتحليل جميع بنود الإيرادات والمصروفات ورصد ما طرأ عليها من تغيرات هيكلية خلال الفترة 2010/2011 – 2021/2022 (سنوات متفرقة) في إطار مقارن مع الدول الأخرى سواء كانت دول مجاورة أو منافسة أو دول يحتذى بها، بالإضافة إلى محاولة تقييم مدى استجابة الموازنة العامة بفاعلية لأزمة كورونا خلال الفترة 2019/2020 – 2021/2022. كما تم أيضا تقييم بعض بنود الإيرادات والمصروفات ذات الطبيعة الخاصة: المشروعات الممولة بالمنح والقروض والموازنة. وذلك بهدف الإجابة بوضوح على السؤال: من أين يأتي المال العام في مصر وفيم ينفق؟ وذلك على غرار ما تقوم به الحكومة الأمريكية من رصد تتبعي شامل لجميع بنود الإيرادات والمصروفات العامة بشكل تفاعلي يسهل من خلاله متابعة الأداء المالي في كل ولاية وتقييمه بدقة بشكل سنوي محدث.
قد أظهر التحليل العديد من المشكلات في جانب الإيرادات أهمها ضعف الإيرادات الضريبية للدولة بسبب سيطرة اللارسمية على معظم الأنشطة الاقتصادية. كذلك اختلال الهيكل الضريبي في مصر من حيث ارتفاع نسبة الضرائب غير المباشرة (مثلت 44% في 2019/2020 مقارنة بـ 16.5% في السعودية، 21% في ألمانيا و13.4% في كندا)، وهي ضرائب تراجعية يزداد عبئها كلما انخفض مستوى الدخل.
وتوصل التحليل إلى تركيز الحكومة وتوسعها في فرض الضرائب على دخول الأشخاص الطبيعيين (الأجور والمرتبات) لترتفع من 10.72% من إجمالي الضرائب العامة في 2010/2011 إلى 18.2% في موازنة 2021/2022 وذلك لوضوح وعائهم الضريبي وسهولة تحصيل الضرائب منهم. وكذلك التوسع في فرض الضرائب على الشركات الملتزمة بالفعل مما يزيد العبء عليهم وخلق حالة من عدم العدالة تشجع على مزيد من اللارسمية، وقد تجلى ذلك بوضوح في ارتفاع عدد الأنواع المختلفة من الرسوم والضرائب التي تفرضها مصر وفي نفس الوقت انخفاض الحصيلة الضريبية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بدول أخرى تفرض معدلات ضريبية أقل.
وأشارت الورقة إلى التوسع الملحوظ في زيادة حصيلة الإيرادات الضريبية الأخرى، وتحديدا ضريبة تنمية الموارد التي ارتفعت من 4.9 مليار جنيه في 2014/2015 إلى 28 مليار جنيه في موازنة 2021/2022 وهي ضريبة تمثل عبئا مباشرا على المواطنين. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ولكن قامت الدولة بفرض أنواع جديدة من الرسوم والضرائب في موازنة 2021/2022 دون وجود ما يثبت استنادها إلى دراسات فنية دقيقة بشأن تأثيرها على القطاعات الاقتصادية المختلفة وقدرتها على النمو.
وعلى جانب المصروفات، فقد أوضح التحليل عدم الالتزام بالنسب الدستورية للإنفاق على التعليم والصحة لتسجل 2.4% و1.5% فقط في موازنة 2021/2022 مقابل 6% و3% على التوالي كما نص الدستور، وكذلك ارتفاع خدمة الدين بشكل يهدد استقرار النظام المالي ويحد من قدرة الدولة على الإنفاق على القطاعات الاجتماعية في أوقات الأزمات، حيث يمثل الإنفاق على خدمة الدين (الفوائد وأقساط القروض) 7 أضعاف الإنفاق على التعليم و11 ضعف الإنفاق على الصحة في موازنة 2021/2022، بالإضافة إلى اختلال هيكل الأجور وعدم عدالة نموها بين القطاعات الوظيفية المختلفة وكذلك عدم تطبيق الحد الأقصى للأجور بسبب العديد من الثغرات القانونية.
ولفتت الورقة إلى وجود العديد من المشكلات المتعلقة بالدعم والمزايا الاجتماعية وآليات تخصصيها، وأهمها عدم زيادة مخصصات تكافل وكرامة خلال فترة الجائحة بالرغم من زيادة أعداد المستفيدين، وتخفيض دعم الصادرات وكذلك تخفيض دعم الأدوية ولبن الأطفال وعلاج المصريين على نفقة الدولة بالرغم من الجائحة.
ومن التحليل السابق لمنظومة إعداد الموازنة بشكل عام والتحليل التفصيلي للموازنة العامة لسنوات متعددة، ظهر العديد من المشكلات الهيكلية الخاصة بإعداد الموازنة وحسابها الختامي، ومشكلات أخرى تتعلق بهيكل الإيرادات العامة وكفاءة إنفاقها، وتم طرح حلول لعلاج هذه المشكلات وفقا لما أسفرت عنه الدراسة من نتائج واستنادا إلى أفضل الممارسات والتجارب الدولية.
ومن أهم الحلول التى طرحتها الورقة هى: النظر في الأسس والمعايير والقواعد المحاسبية والتشريعية الخاصة بإعداد الموازنة المصرية للحد من الاختلالات في التنفيذ التي أظهرها الجزء الأول من الدراسة، والحد من سلطة وزارة المالية في إجراء التعديلات على الموازنة من خلال وجود معايير لحدود هذا التدخل، بالإضافة إلى تحقيق أقصى مستوى من الاتساق بين المربوط والفعلي من كافة الجوان، وتبني موازنة البرامج والأداء.
كما طالبت الدراسة بضرورة العرض المفصل لأي زيادة في النفقات أو استحداث مصروفات لم ترد بالموازنة المعتمدة من مجلس النواب والحصول على موافقة المجلس قبل الإنفاق الفعلي، وتفعيل المادة 238 من الدستور المصري بشأن مخصصات الإنفاق على التعليم والصحة والبحث العلمي، بالإضافة إلى الاتجاه نحو اللامركزية وتفعيل بنود الدستور الواردة في هذا الصدد.
ودعت إلى التعامل بشكل سليم مع الاقتصاد غير الرسمي من خلال منظومة متكاملة تحقق التوازن الصحيح والمطلوب بين الحوافز من جهة والعقوبات من جهة أخرى مع ضمان وجود جميع الشروط المسبقة اللازمة لنجاح أي جهود في هذا الصدد، بجانب ترشيد السياسة الضريبية في مصر بحيث لا تتحول إلى أداة للجباية وتثبيط مجتمع الأعمال عن الاستثمار والتوسع، وعدم اغفال الأبعاد الاجتماعية للضريبة كأداة مالية وعدم توقيع أي اتفاقيات أو البدء في أي مشروعات قبل إجراء دراسات جدوى تفصيلية دقيقة بشأنها للوقوف على آثارها المالية والاقتصادية من ناحية ولتحديد جميع المعوقات المحتملة وكيفية التعامل معها بشكل مسبق، مؤكدة أن هذه الحلول تتطلب التطبيق العاجل لها لتستطيع الموازنة العامة أن تقوم بدورها كمحرك أساسي للتغيير.