الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هل يحقق الإنسان الخلود على الأرض؟!

منذ أن تحصّل الإنسان العاقل "الإنسان العاقل هو الاسم العلمي للنوع الوحيد غير المنقرض من جنس الأناسي والمعروف بهومو، الذي يحتوي أيضاً على نياندرتال وأنواع أخرى من القردة العليا. نقول منذ أن تحصّل على الوعي فإنه يحاول الإجابة عن سؤال عن ماهية الوجود، والسؤال عن سبب الموت، الذي يتبع في الأعم الأغلب مرضا يصيب الإنسان، هذا الذي استتبع أسئلة شتى عن سبب الأمراض التي تصيب هذا الإنسان هذا الذي أعقبه محاولة ربط الأمراض بمسببات تناسبت هذه الأخيرة مع قدرات الإنسان العقلية والعلمية، ففي مرحلة من مراحل العقل الإنساني الأول - في بواكيره الأولى وطفولته الساذجة- أحال الإنسان أسباب المرض إلى أساطير أو أسباب غيبية أو نتيجة لغضب الآلهة أو عقاب من الإله.

وما أن غادر العقل مراحله الطفولية إلا وأخذ يبحث عن الأسباب الحقيقية للأمراض التي تصيب الإنسان، واستطاع  بفضل العلوم الطبية التي خطى فيها الإنسان الحديث خطوات كبيرة أن يصل إلى أغلب مسببات الأمراض، بل استطاع أن يتغلب على الأمراض التي كانت تفتك بأسلافه فتفني منهم الآلاف بل الملايين، ويقف العلم الذي طوره ويطوره الإنسان بالمرصاد للميكروبات والفيروسات التي هي السبب الرئيس لما يصيب الإنسان من أمراض مكتشفا العلاجات التي تحاربها لينعم الإنسان بالصحة، وما حرب العلم لفيروس كورونا المتحور والمتطور إلا نموذج على تلك الحرب التي يعلنها وينتصر فيها العلم على الأمراض من ناحية ومواكبة حالة التطور للكائنات الحية والتي يمثل فيروس كورونا نموذجا لها من ناحية ثانية حيث قُدِّر أن أحدث سلف مشترك لفيروسات كورونا تواجد حوالي 8000 سنة قبل الميلاد. ويمكن أن يكون أقدم من ذلك بمدة معتبرة. يضع تقدير آخر السلف المشترك الأحدث لجميع فيروسات كورونا عند حوالي 8100 سنة قبل الميلاد. وُضِع أحدث سلف مشترك لفيروسات كورونا ألفا، كورونا بيتا، كورونا غاما، كورونا دلتا عند حوالي 2400 قبل الميلاد، 3300 قبل الميلاد، 2800، قبل الميلاد، و3000 قبل الميلاد على التوالي. يبدو أن الخفافيش والطيور -الفقاريات الطائرة ذات الدم الحار مضيفات مثالية لمصدر جين فيروس كورونا (الخفافيش لفيروسات كورونا ألفا وبيتا، والطيور لفيروسات كورونا غاما ودلتا) وبيئة مناسبة لدعم تطور فيروس كورونا وانتشاره.

إن سعي الإنسان المحموم لمحاربة الأمراض إنما يهدف رفع الألم والمعاناة عن جسد الإنسان من ناحية وتمتعه بصحة جيدة تمكنه من أداء أعماله ومهامه في الدنيا من ناحية أخرى، وإطالة عمره تلك الرغبة الدفينة في الإنسان منذ الأزل من ناحية أخيرة.

لقد حلم الإنسان منذ أن تمتع بالوعي بالخلود في هذه الدنيا بقهر الموت ذلك الحلم الذي ظل مستحيلا حتى اللحظة، وإن جاءت الأديان لتعوض الإنسان بوعدها له بحياة أبدية في حياة أخرى بعد الموت. وأيضا كان للفلسفة دور تعويضي حينما زعم بعضها حيوات مختلفة متعاقبة.
ولقد خلف لنا تراث بلاد الرافدين الأقدم في التاريخ، في أقدم أسطورة يسعى بطلها للوصول للخلود في ملحمة جلجامش، تلك الملحمة التي تكشف تطور الفكر الإنساني، الذي تأمل الموت باعتباره فناء ذلك الذي يرفضه الإنسان في أعماقه، محاولا بكل ما يملك من قوة التمسك بالحياة، ففي القصة، عاش جلجامش حياة اللهو والصيد والبطش بالناس، حتى لم يترك ابنًا لأبيه، ولا ابنه لحبيبها، فشكاه الناس للآلهة، فطلب الإله آنو من الإلهة أرورو التي خلقت جلجامش أن تخلق غريمًا له ليتصارعا معًا، وتستريح مدينة أوروك من شر جلجامش، فخلقت أرورو إنكيدو، وبعد أن تصارع إنكيدو مع جلجامش صارت بينهما صداقة حميمية، وقام الصديقان بعدة مغامرات، وفي إحدى هذه المغامرات تعرض أنكيدو للموت، وحزن  جلجامش شديدا على موت إنكيدو، وأيقن أن مصيره هو الآخر الموت والفناء، فسيطر عليه هاجس الموت، وأنه لا مهرب منه إلا بـالخلود.

طبقا للأسطورة، لم يكن أمامه سوى الوصول إلى (أوتونبشتم) وهو الإنسان الوحيد الذي حقّق الخلود مع زوجته بعد نجاتهما في حادثة الطوفان الشهيرة. وعلى الرغم من النصيحة التي تلقاها جلجامش بأن يستمتع بما تبقى له من العمر بدل البحث عن الخلود، إلا أنه يستمر ويعبر مياه الموت ليصل إلى (أوتونبشتم) بمساعدة الملاح (أورشنابي). وأمام إصرار جلجامش على معرفة سر الخلود يمنحه (أوتونبشتم) الفرصة إذا تمكن من عدم النوم - الذي هو الموت الأصغر - ستة أيام وسبع ليالٍ، ولكنه يفشل في تحقيق ذلك.
ومع إلحاحه وإشفاقَ زوجة (أوتونبشتم) جعلا الأخير يحدثه عن نبتة موجودة في أعماق المياه تجدد شباب من يأكل منها. ويصل إليها بالفعل جلجامش بعد معاناة وكفاح، وبدلا من أن يستخدمها فإنه يقرر أن يأخذها إلى حيث ينتظره شعبه في أوروك ليزرعها هناك ويطعم منها الشيوخ فيعودون شبابا.. ويأكل هو منها حين يكبر.

بدأت رحلة العودة مع الملاح أورشنابي.. وفي استراحة وعلى غفلة من جلجامش، أكلت الأفعى نبات الحياة فتجدد جلدها.
عندها يطرح الكاتب فكرته السابقة لزمنها.. وهي إدراك جلجامش أن الموت أمر حتمي للإنسان، وأن الخلود يأتي بعمل الخير، فعاد إلى أوروك وبنى سورها الكبير وظل يعمل الخير إلى أن مات. هذا الذي يفهم منه أن الإنسان يمكنه أن يحقق الخلود بأعماله المفيدة وبالخير الذي يفعله هذا الذي يبقى بعد فناء الإنسان.

لم تكن ملحمة جلجامش هي فقط التي تعكس محاولة ورغبة الإنسان في الخلود في العالم القديم، حيث وجدنا أساطير أخرى زعم فيها الإنسان أنه يمكن أن يحقق هذه الأمنية وكان للحضارة المصرية القديمة هي الأخرى إحدى تلك المحاولات حيث تم الربط بين أسطورة "تحوت إله المعرفة" عند المصريين القدماء وهرمس الهرامسة، حيث قيل عن كل منهما في حكايات متفرقة أنه تناول "القطرات البيضاء" (الذهب السائل)، الذي يعرف ب "إكسير الحياة"، (بالإنجليزية: Elixir of life)‏ المعروف أيضًا بإكسير الخلود والذي يساوى أحيانا بينه وبين حجر الفلاسفة: هو عقار أسطوري أو مشروب يضمن لشاربه حياة أبدية أو شباب أبدي، وقد سعى إليه العديد من ممارسي الخيمياء  (الكيمياء القديمة). وقيل أيضًا عن إكسير الحياة أنه يمكن أن يخلق الحياة.

وإذا تركنا العالم القديم وعقله الطفولي وتفكيره الأسطوري وسارعنا الخطى لنتجاوز ما يقترب من الخمسة آلاف سنة لنصل لإنسان اليوم وعقله الحديث وعلمه المبني على التجربة والمناهج البحثية الحديثة، لوجدنا الإنسان مازال يحلم بالخلود، ولوجدناه وقد أخذ بتلابيب العلم ليخطو في طريقه خطوات هامة استطاع من خلالها القضاء على العديد من الأمراض، كما استطاع أن يحقق رعاية صحية مرتفعة كانت سببا في ارتفاع معدل عمر الإنسان، فهل يستطيع الإنسان بما لديه من علم مرشح للتضاعف باضطراد مستمر أن يحقق تلك الأمنية التي داعبت خيال أسلافه منذ مطلع التاريخ؟!.

يدرك العلم الحديث أن الخلود شبه مستحيل، ولكنه لا يرفع الراية مستسلما، فلم يعرف العلم يوما الاستسلام، ولم يزعم يوما أنه وصل إلى المنتهى، ولم يذكر يوما أنه قادر على كل شيء، فهو ليس على كل شيء قدير، وربما ذلك فقط خو الذي يجعله أن يسير حثيثا باحثا ومستكشفا وآملا في تحقيق النتائج التي لا يفتأ أن يحولها لمقدمات لأبحاث جديدة تسعى إلى نتائج جديدة وهكذا إلى ما لا نهاية، فطريق العلم وإن كان له بداية فإن نهايته هي اللانهاية.

إن الخطوة التي يعمل عليها العلم الآن هي الوصول إلى علاج للأمراض التي تفتك بجسد الإنسان، وهو بهذا يصل إلى نتيجة أخرى حتمية إطالة عمر الإنسان كخطوة في طريق الخلود الذي يحلم به.

إن الحد الأقصى لعمر الإنسان زاد بثبات بنحو ثلاثة أشهر كل عام منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكما يقول عالم السكان، خوسيه مانويل أبورتو، من جامعة أكسفورد: "في المجتمعات التاريخية، كان متوسط ​​العمر المتوقع منخفضا لأن الكثير من الناس ماتوا في سن مبكرة. ولكن مع استمرار التحسينات الطبية والاجتماعية والبيئية، زاد متوسط ​​العمر المتوقع. وأصبح المزيد والمزيد من الناس يعيشون لفترة أطول الآن.

لا يقتصر الأمر الآن على هذا الطول في العمر، بل هناك ما هو أخطر من ذلك يستطيع العلم أن ينجزه بالنسبة للإنسان الجديد، فبعد اكتشاف الجينوم البشري الذي هو مجموع كل المادة الوراثية في الكائن الحي، أصبح من الممكن معرفة كل المعلومات عنا حيث أنها موجودة في الحمض النووي؛ بدءًا من الصفات الجسدية التي يحملها الإنسان، ولون العينين، وشكل الشعر، نعومته أو تجعده، وكذلك سمات سلوكية معينة، وتحدد أيضًا أمراضًا جينية ستتم الإصابة بها، بل ويتم ونقلها للأولاد.
إن التعديل الجيني قد ينهي الأمراض، ويعدّل من صفات المواليد، ويمنح الناس شبابًا دائمًا؛ فنحن الآن نعتبر في مرحلة تشبه مرحلة الكومبيوتر في السبعينيات، لكننا في المستقبل سندخل مرحلة  الحاسبات الآلية المحمولة والمتنقلة وسهلة الاستخدام أو هذا ما يرجحه العلماء.

ومنذ عدة أيام صدرت تقارير تؤكد أن الملياردير جيف بيزوس يستثمر في مختبر غامض يسعى إلى تحقيق خلود البشر، وجاء في التفاصيل:
عن مجلة "The Times " البريطانية أن الملياردير الأمريكي جيف بيزوس هو من أبرز المستثمرين في الشركة الناشئة "Altos Labs" في السيليكون فالي، المتخصصة في أبحاث مكافحة الشيخوخة.
هذه التقارير دفعت وسائل إعلام عدة إلى اعتبار أن بيزوس يبحث عن الخلود والحياة الأبدية.

وكان بيزوس قد تبرع بملايين الدولارات لمشاريع أبحاث مهتمة بإعادة البرمجة الجينية، من المفترض أن تكون أهدافها إطالة عمر الانسان بضعة عقود إضافية على الأقل.

وإذا كانت فكرة الخلود تجذب الأغنياء عادة للاستثمار في أبحاث مماثلة، فإن شركة "Altos Labs" قد تمكنت أيضا من جذب علماء كبار معروفين حاز بعضهم على جوائز نوبل.
 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط