الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مصطفى الشيمى يكتب: باب خشب

صدى البلد

نسأل عنه الآباء والأعمام والجدات وعواجيز القرية فلا يدرون أهو نبت شيطانى أم أن جد جد جدنا الأكبر هو من صنعه ، كان مثار دهشتنا جميعًا مختلف تمامًا عن أى باب . خشن وقد حفر الزمن بأظافره وأنيابه في خشبه الغليظ السميك فصنع فيه بروزات ، وشقوقاً ، وحفائر ،  و ندبات ، وجروح غائرات . ظل صامدا حتى فى وجود هذه المسامير الصدئة المدفونة فى جسده المتين . تعددت مهام هذا الباب التي كانت في البداية مقتصرة على الحفاظ علينا من الأخطار الخارجيّة ، كالحيوانات المفترسة ، والبرد ، والمطر ، حتى وصلت إلى منع  تسلل الخلافات إلى خارج الدار والتستر  على العديد منها بين أعمامنا وبين زوجة عمنا وأمنا .
تجسدت الأحداث التى عاصرتها وحفرت على سطح هذا الباب . كان يتكون من  قطعتين أحدهما ثابت والآخر يحتاج لتكاتف عشرة أحفاد لغلقه كنا نجعل منه مرمى مشترك بين فريقين يلعبان بمهارة بالغة ويتحمل كم هائل من التسديدات المباغتة دون أن يهتز  . يظل القفل العملاق الخشبى بصمة واضحة على جداره الخلفي  بصفته وحدة التحكم في الدخول والخروج وآلة التنبيه التى تحدد مواعيد النوم الاجبارى والاستيقاظ فى الباكر 
 كان للباب مطرقة حديدية تُشبك به من الخارج بحيث يمكن تحريكها لإحداث صوت يسمعه من بداخل البيت كى يفتح للطارق ولكن الكثير من الأهالي - قديماً - يتخلوا عن طرق الباب و يكتفوا بالاستئذان في الدخول بإصدار إشارات صوتية تنبئ أهل الدار بحضورهم  . كانت هذه القبضة تأخذ شكل اليد المؤلفة من خمسة أصابع تشبهاً بيد الطارق . وربما ارتبط بها مهمة دفع الحسد ، أو كتميمة تحمى من عين السوء .
كان الباب يغلق ليلاً ، أما في النهار فعادة يظل مفتوحاً ، وتوضع أمامه ستارة ملونة تحجب الرؤية و تمنع جرح خصوصية من بالداخل . ظل هذا الباب مانع ضخم و شديد التحصين يحكم غلقه وفتحه من الشجرة الأم التى كانت لا تظلم أحداً من فروعها . فشريعة الكون عندها هى العدل والظلم لا تعلم عنه أى شئ .
وبعد سلسلة من الميراث والتوريث ، والقطع والبيع والهدم والبناء والتمدن والتحضر والموت والميلاد ، قُسم كل شئ فى البيت الكبير ، الأرض الواسعة ، قوالب الطوب القديم ، عروق الخشب الزان ، الذهب والفضة ، حتى الأواني القديمة والفخارية . ظل هذا الباب الإرث الوحيد الذى لم يحظى بأي نزاع لضخامته . فلم يعد يصلح الآن أن يُغلق عليهم من جديد فى منازلهم الجديدة المنمقة ، ظل مركوناً على جدار أحد الجيران أياماً و سنوات ،  يخفي معالم بيته حتى طابقه الأول . أتذكر يوم أن قرروا التخلص منه ، وقفنا فى حسرة نرى المنشار الضخم الغليظ وهو يقطع الباب بكل ما حمله من أغصان قويه سدت أخطار عدة عنا وذكريات أصبحت ميتة ..