الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ضلع أعوج

الذاكرة هي صندوق ائتماني وثيق ،ما نستودعه فيها اليوم نجده ولو بعد ألف الألف يوم ،ننسي أحياناً ونتناسى كثيراً لكن ما بين هذا وذاك بِضع يقين بأننا وضعنا ما ذهب عنا داخل هذا الصندوق الأمين.
والذكريات عكس باقي المقتنيات ؛ فكلما مرّ عليها الزمن تصبح الذكرى قيمة ولامعة تسيل لعاب الحنين وتثير مشاعر الماضي وإن ظننته دفين.

لا أمان للذكريات ؛خاصةً الموجعة ،تهاجمنا دون استدعاء،ولا أدري هل هو ازدراء لغرف القلب المغلقة وذكرياتها المغلفة بالانكار ! وكأن الإدعاء بأن ما كان لم يكن ؛ يكفي لتجاوز الوجع والنسيان. 
هذا ما ظننته وذلك ما اعتقدته ولكن من قال أن بعض الظن إثم قد بَتَرَ عبارته ،فبعد الظن قد يكون اليقين، وهذا ما أيقنته ،فالذكريات تنام على أهدابها يكفي أن تمر  بجوارها على أطراف أصابعك لتستيقظ وتحضنك أو تحطمك !

بدأ الأمر بتغريدة على موقع التواصل الاجتماعي لأحد الأصدقاء بأنه إذا رأي امرأة يتم الاعتداء عليها بالضرب سيضرب المعتدي وإن كان زوجها؛ تغريدة عادية تتماشي مع الفطرة السوية للنفس البشرية، ولكنها أثارت داخلي حزناً خفياً!
لم أعرف في لحظتها السبب ؛  تقاطع لصور وتداخل أصوات يزعجني، حكايات سمعتها أحداث رأيتها لكن عقلي كان يرفض استرجاعها وقلبي عاجزاً عن استقبالها، ولكن سامحك الله يا صديقي كلماتك اطلقت البخور الذي أثار شرور الذاكرة وهاهي باتت الصور مجمعة والأحداث مرتبة وأصبحت القصة جاهزة وكأن ما مر عليها سنوات طويلة لا تزال تفاصيلها الدقيقة طازجة!

في صباح أحد الأيام الشتوية كنت طفلة شقية انتظر الحافلة المدرسية أمام منزلى الذي يقع في أحد الشوارع الحيوية بأحد ضواحي القاهرة التي تمتاز بهدوئها في ذلك العصر ، شغف الأطفال يجعلني استرق السمع على اللّك الصباحي لحراس العقارات أثناء تنظيف السيارات والعّك النسائي لزوجاتهم وهن يوزعن الجرائد على السُكان ، جار يشخط وآخر يُنطر والسماء تُنذر إنها ستمطر ؛ ملكوت متكرر لكن لا تمله عيون تلك الطفلة التي هي أنا…

استرعى انتباهي هذا الرجل الذي يقف على مقربةٍ مني يفصل بيننا بضع خطوات وعدد من الشجيرات ، يتكلم بغضب يشوح بسخط فتملكني الفضول عندما وجدت أن كل تلك السموم تنصب على رأس السيدة الواقفة أمامه وهي ترتعد تربت كتفه فينهرها ،وتهدئ من روعه فيزجرها ،تبكي فيدفعها ،تهمس له فيعلو صوته ويزداد غضبه ،وفجأة إذاً بيد الرجل تتهاوى على وجهها بصفعة جعلت جسدها يرتد للخلف وما في جوفي .. يرتمي للأمام !

لم يستوعب عقلي ما رأته عيناي ولم تترجم رأسي ماسمعته أذناي  وهي تصيح مدافعة عنه مع رواد الشارع الصباحيين الذين تحلقوا حولهم سواء من باب التطفل أو التفضل ( محدش له دعوة ده جوزي وهو حر ) ! 
مشهد حفر داخلى كلمات نقشت في باطني عدم فهم لازم ظاهري، رعب تملكني كوابيس لازمتني وصورة السيدة لا تفارقني ،خمرية اللون راقية المظهر افلتت حقيبتها يدها إثر اللطمة فنزلت على الأرض لتلملم مابقي منها ومن كرامتها!

مرت السنون وكنت أظن أن ما رأيته في ذلك اليوم أضغاث حلم مجنون ،سمعت قصصاً عن العنف ضد السيدات وحكايات عن كيفية تربية الفتيات تبدأ  بكسر الضلع وتنتهي بكسر النِفس ولكنها تظل همهمات وظننت مع مر الزمن أن ما رأته عيناي  كان مجرد تهيئات.

ولكن صدمتي للمرة الثانية كانت منذ سنوات قليلة عندما جائت إلي إحداهن تبكي الدموع وتلطم الخدود لأن زوجها اعتدي على ابنتها ذات العشر سنوات وللمفاجأة أنها ابنته أيضاً ، وعندما بدأت أسرتي مساعدتها ليأخذ الأمر مجراه القانوني رفضت وتذرعت أنها لا يمكن تحبس (أبو عيالها) وهو صاحب مرض فهو لم يفعل فعلته إلا بسبب المخدرات ،ولقد أمر الله بالستر وهي ستمتثل لأوامر الخالق وتستر هذا المخلوق ولن تفضح نفسها وابنتها وأسرتها ؛وانقضي الأمر وانصرفت الأم وحتى اليوم هذا الكائن لا زال حياً والله أعلم هل أخلاقه على حالها كالحية ؛يلدغ وينفذ من عقاب القانون ، فمن أمِن العِقاب أساء الأدب بل وتمادى في قلته ،هذا الرجل وتِلك المرأة كلاهما حصاد بلاهة العادات والتربية المليئة بالعاهات !
قدر حنقي على تخاذلها وهوانها على نفسها ،قدر اشفاقي عليها فهي بالرغم من أميتها إلا إنها استطاعت أن تقرأ المجتمع ببراعة، فلا رِهان على مجتمع سواده الأعظم ينظر للمرأة بدونية!

لذا لم أتعجب عندما فتحت بابي ذات يوم قريب لتلك الشابة الثلاثينية التى تساعدني في الأعمال المنزلية فاجئتني بوجنتها المتورمة وعينيها المنتفخة وذراعها المكدوم وحزنها المكتوم الذي أثار شجني على شبابها الملكوم ولم أسأل فالقصة مألوفة ولكنها تبرعَت وحكت الحكاية المعروفة !
خطيبها المُدمن "رزعها " علقة عقاباً لها ؛ فقد كحلت عينيها وحمرت شفتيها وتجرأت وخرجت للشارع " متبرجة "بحسب ما قال شيخ الزاوية في خطبته الأسبوعية ولم ينسى الشيخ الكريم أن ينصح رجال الحي بما جاء في القرآن الكريم سورة النساء الآية ٣٤  "وَاضْرِبُوهُنَّ " ؛ ويبدو أن الشيخ تناسى سياقها وما قبلها وما بعدها وأكتفى بلفظ الضرب كصيد ثمين ،فما كان من خطيبها إلا أن يُشهد الشارع على رجولته ويضربها ليسمع القاصي؛ ويركلها على مرأي من الداني لتتعلم الأدب فيما بدر منها من العيب المتعلق باستخدام ادوات الزينة والحرام لأن البلوزة التي ترتديها لم تكن طويلة!

تكرر الموقف وأصبح من المعتاد وجهها المُلطخ بالكدمات ولم تجدي معها الكلمات ؛ فإذا نصحتها بتركه تعللت بسنوات عمرها التي قيضَت فرصها، وإذا سألتها لما لا تنهره استنكرت فكيف تحطم هيبته ،تعجبت من موقف أهلها فعرفت أن كل ما يحدث بمباركة عائلتها فالأب سعيد بأن هناك من شال الشيلة وتولى مسؤولية تربية ابنته "النمرودة" التى تقطع جزء من راتبها لنفسها وتضنه عليه ولم يشفع لها عملها دون سن العاشرة لتساهم في مصاريف المعيشة لتسد عجز أبوها الذي يصرف دخله على " المزاج "!
آلاف من قصص العنف تتكرر في المجتمع يومياً وتقتسم الحزن لحظياً، أغلبها ضحيتها امرأة ، بل أكاد أجزم انه لا يمر يوم على آي من تحمل نون النسوة دون أن تتعرض للعنف حتى ولو خلسة بداية من نظرات الخِسة التي تدمي الكرامة وحتي الضرب الذي يفضي إلى الموت ؛ فالنساء يمتن ببطئ ،كل اعتداء لفظي أو جسدي ،معنوي أو مادي سم يندس في خلاياها سيؤدي بها حتماً لتكون كائن بلا روح ، وتِلك هي الميتة الكُبري الموت النفسي الذي يسبق الموت الأصغر موت الجسد!

العنف ضد المرأة موروث أزلي تِركة اجتماعية مشبوهة ودينية مغلوطة ،بضاعة رائجة على مرّ الزمان وتتابع الأجيال ، رسخت المرأة قواعد الذل بيديها فمن ربت ضارب النساء امرأة ،ومن ضُربت وصمتت امرأة،وبين المرأتين مجتمع يدّعِي القوامة ويدعو للاستقامة التي لن تتحقق إلا إذا استقام الضلع الأعوج المدعو امرأة، بعد ما سطرته يظل سؤال صديقي قائماً هل ستتدخل لتمنع رجل يضرب امرأة ولو كان زوجها؟

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط