الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمود الجلاد يكتب: سائقة الملاكي.. (قصة قصيرة)

صدى البلد

شارد الذهن.. يفتح عينيه للشمس بصعوبة من شدتها في وضح النهار.. إلى مقر عمله في مستشفى الحسين بمنطقة الأزهر الشريف خرج متوكلاً على ربه.

يرتدي قميص أزرق وبنطال أسود.. يتوسط حارة ضيقة .. رأسه مرفوعة.. مهرولاً في خطواته .. بين خلق الله، تطلعت له العيون فرأت في وجهه وقارًا ... ألقى تبريكات الخالق وسلامه عليهم.. يحمل في يديه بعض الكتب الأدبية.
حريص على الإنصات إلى المشايخ وحضور دروسهم في الجامع الأزهر بعد انتهاء عمله.. لسانه رطب بكلمات معسولة لزملاءه ، محبوب ، ذكي، لكنه يصطنع اللؤم أحياناً.
بعد خطوات قطعها من شقته إلى محطة المترو، حيث الازدحام الشديد والعرق داخل العربة كمشرحة مغلقة عفنة الرائحة ، أشبه بسجن فيه بشر يتكدسون أمام أبوابه منتظرين فرج الله للخروج.. فيها تصطدم الأكتاف، وتدهس الأقدام .... تزاحم الناس يشعرك كأنه يوم المحشر في موقف الحساب.
يدفعه الراكبين يمنة ويسراً، تحول إلى عكس ما كانت عليه حالته فور خروجه من شقته بقميص بلغت الشياكة مقصده متعطراً بأفضل العطور..

وسرعان ما تبدل الحال ..فاح قميصه الأزرق عرقًا.. حذائه الأسود اللامع أصبح مترباً من دهس الأقدام .. تناثرت رائحة الطٌيب من شد وجذب ، وتعلق الراكبين في كتفيه...

وصل إلى محطة العتبة .. حمد ربه وأخرج زفيراً أشبه بنار موقدة.. نحو السلالم انطلق حتى خرج من المحطة ليركب إحدى سيارات الأجرة التي تنطلق نحو الحسين.. لكنه فوجيء بسيارة ملاكي تقف أمامه.. يجلس في المقعد الأمامي رجل ذو شارب وجلباب.. وآخر ذو عمامة أزهرية في المقعد الخلفي..

سيدة عجوز تقودها تقارب الستين عاماً.. محجبة مكفهرة الوجه، صوتها أجش، متكحلة العينين، سيارتها ليست أجرة لكنها ملاكي موديل التسعينات.
بصوت أفزع المحيطين بها نادت .. “الأزهر يابني”
أخذته غياهب الصمت في لحظات مستغرق في التفكير .. ذهل ..تردد .. لكنه تقدم نحوها.. نظرات الراكبين تترقبه ترجوه الركوب لينطلقوا ...أفسح الراكب الخلفي...فاستجاب له.. ثم ركب.

على مر الطريق.. تحدقت عيناه في المرآة .. وجهها يبث الشكوى ..شعر من نظراته لعينيها في مرآة السيارة، أنها متعبة، مرهقة ، نعسانة.
كان صامتًا قلقاً مضطربًا ......لماذا تفعل هذا ومن ورائها وما الذي اضطرها لذلك..
يا أيتها العجوز أليس لك طفلا أو رجلاً أو ولدًا أو منزلاً أو أهلاً أو جارًا يخشى عليكي بعد مرورك بهذا السن ..يا أيتها العجوز أما دفعك لهذا، أفقر مضجر .. أم ما أصابك؟
شعر بحسرة في داخله، خوفًا على روحه وأرواح من معه ، تبدوا العجوز، مخنقة تعيش حال ضنك، تسوق بسرعة جنونية، لا إرادية كأن حجر ثقيل فوق رجلها اليمنى الموضوعة فوق مكابح” البنزين”.
أسند ظهره على الكرسي الخلفي ثملاً تترنح رأسه سأمان مرهق الجسد بعد سهرة طويلة حتى الفجر مع صديقة في مشاهدة الفيلم الأجنبي للنجم العالمي ” ليوناردو دي كابريو"..
انطلقت السيارة مسرعة من ميدان الأوبرا نحو مطلع الكوبري العلوي..
يحاط سور الكوبري بصفيح لا يغني ولا يحمي، بل لا يصد سيارة عن السقوط في منطقة السوق التي تزدحم تحت الكوبري، يعمل تحتها آلاف البشر من الباعة المتجولين في العتبة والموسكي.
نتيجة سرعة مرعبة وطريق ضيق انزلقت عجلات السيارة.. سقطنا من فوق الكوبري صراخ وعويل، وأناس تهرول..
بصوت عال صاح الراكب الأمامي: السيارة هتولع..
تهشمت رأس الراكب الثاني في المقعد الخلفي.. تخشم فك العجوز.. تزاحمت الناس ، تحطمت عدد من المحلات... لازالت العجوز تتأوه.. حشد من البائعين يتجمع حول السيارة.
ينادي مناد من أهل العتبة بصوت مرتجف مرعوب من شدة الموقف وهرولته: اسعاااف
يحاول صاحبنا الخروج من السيارة ، كسر ذراعة وقدمه اليمنى لم يعد يتحرك، اشتعلت السيارة و ازداد الرعب ..
بصوت عال نادته العجوز..” نازل فين يابني”
أفاق من غفلته.. ولعن سهرة ليلة صباحها عمل......بصوت فزع أجابها: نازل مستشفى الحسين.
صدّرت له وجهاً عبوساً تكدره على ما أصدره من شخير مزعج ..
نزل الراكب الأمامي في منطقة الغورية ... هبط صاحبنا مسرعاً وركب بجوارها..

فور هبوط السيارة من الكوبري لمنطقة الغورية قبل الجامع الأزهر .. عبق البخور المتطاير يشرح الصدر .. مع أنفاسه يشعر براحة نفسية وسكينة وطمأنينة بأنفاس روحانية في حضرة سيدنا الحسين، وجمال المعالم الأثرية التاريخية من فاطميين ومماليك وأيوبيين.

يتذكر شارع المعز حيث الأجواء التي تبسط القلب بجمالها ومعمارها ورونقة حضارتها كمذار يعشقه كل المصريين، وصلاته في الحاكم بأمر الله ، ومسجد الاقمر ، ومسجد الغوري .
تتوسط ابنتها الطريق لتوقف ميكروباص لتعود لمنزلها بعد انتهاء يومها الدراسي..
ترائت الأعين واختلجت النظرات، لكنها كانت الصدمة في شارع مزدحم..
نزلت السائقة من السيارة مسرعة لتلحق بابنتها .. نادتها بصوت لفت المارين.... لكنه لم تجب لها خجلاً لما وجدته عليه أمها.. تأوهت وحزنت شديداً...
عادت إلى سيارتها خافضة الرأس .. تردد الحيلولة بشفاهها.. بقوة دفعت الباب ..بصوت هاديء قلق خشي صدامها أن ترفض الحديث معه لكن بفضوله وجرأته قال للعجوز: هل يمكن الحديث معك بضع دقائق.
التفتت إليه ولم تجب..
لماذا تعملين في هذه المهنة تحديداً بعد هذا السن؟
انشرح صدرها ..في حاجة للفضفضة ... تبحث في رحاب الكلام معه عن عدل عيشة ترضاها لنفسها بعد هذا العمر، خرجت من نار الكتمان والتأوه إلى جنة الحديث..
نعم ياولدي.. على مدار خمس سنوات درسّت اللغة الانجليزية في الإمارات وكنت مرافقة لزوجي في غربته، لكن لخلافات مستمرة كان الإنفصال قرارنا...
في الأصل امرأة صعيدية من عائلة كبيرة في سوهاج عمري الآن 55عاماً، والدي رحمه الله كان داعية إسلامي .
رزقت بولدين وفتاة بعد مرحلة متأخرة من العمر.. الولد الأكبر في الجيش يؤدي الخدمة العسكرية ، والأصغر في المرحلة الإعدادية، وابنتي الوحيدة التي نعيش في جدال متواصل بسبب عملي لازالت تدرس في الثانوية التجارية.
وصلت السيارة لمستشفى الحسين.. لم ينزل لعمله .. بل فضّل السماع لحكاية العجوز.. ربت على كتفها..

انتباه شديد لحديثها ..بصوتها الجهوري تكرر المناداة على زبائنها أثناء حديثها... ” مترو ..عتبة “..
أكملت ملتفة له منشغلة بتحميل الركاب تحاول أن تنسى موقف ابنتها الذي وضعها في حرج .."انتقلت للقاهرة منذ سنوات كثيرة ، واستمر زواجي 15 عاماً، واستقريت في مصر منذ أكثر من 7 سنوات ...
في جو مزدحم أمام مستشفى الحسين.. خدشت سيارة “سوزوكي” صغيرة الحجم سيارتها، حدقت عينها بغضب نزلت مهرولة إلى صاحب السوزوكي.. وبّخته ثم تشاجرت معه ..صاحت مرسلة أقذع الألفاظ له بصوت عال.... بهدوء جذبها الشاب إلى سيارتها.
أحنت رأسها وكأنه يوم من بدايته أذى ..
بنبرة أسى : أنا هدفعلك تكاليفها لم تهتم بكلامه المعسول.ز
استعطفته حالتها: “أكل عيشي سبب نزولي وهذه سيارتي ملكي، وعليّ التزامات ومصاريف منزل ولازم أنزل واشتغل، بعد انفصالي عن زوجي، وأتعرض لكثير من المضايقات من سائقي السيارات لكن لا زم استحمل ..
ممزق الروح مستمع لحديثها يبحث بين أمواج كلامها عما يروي حلقه من تمتمات وحسرات سمعتها أذنه من فم العجوز..
اختلط صوتها بزحام السيارات .. على استعداد أن أعمل في أي مهنة مقابل راحة أولادي،  وسيارتي كانت مخصصة لطلبات منزلي فقط، ركنتها في “الجراج” فترة لكن للحاجة أخرجتها..

بعد استقراري في مصر نفذت “تحويشة العمر”، اضطررت أن أخرج السيارة من الجراج كمشروع يعود بمصاريف المنزل ومتطلباته...
طالبت أحد السائقين أن يعمل على السيارة بـ”الأجرة اليومية”، لكن فوجئت أن أغلبهم يسرقني، حتى كان آخر سائق محصلة 15 يوم عمل 300 جنيه فقط ، فكان قراري أن أعمل بنفسي ..بعد أن أهمل زوجي مساعدة أبنائه منذ عام 2012 تاركًا مسئولية كبيرة على عاتقي. 
اغرورقت عيناه... فضل البقاء معها حتى سماع القصة للنهاية.. باحثاً عن خيط أبيض تسرده في حديثها ..
تناول زجاجة المياه ليجفف ازدراء ريقه ثم أعادها إلى مكانها..
ابني ياسر جندي يؤدي خدمته العسكرية ، كان رافضاً لعملي ، طلب مني بيع السيارة وعمل مشروع مكانها لكن ثمنها لا يكفي أي مشروع.. خشيت أن تضيع هذه السيارة بدون وجود أي وسيلة دخل لكن بمرور الوقت اقتنع .

كانت ابنتي نفسيتها سيئة للأمر بسبب “البرستيج”، و”المظهر العام”، ولا تريد أن تكون أمها سائقة .
السائقين اعترضوني كثيرًا وعاملوني بإهانة وخطفوا مني الزبائن ولا يراعون حالتي ، كل ما يشغلهم تطفيش الركاب مني لكني أتصدى لهم، ولن أضعف .
ساد الصمت لحظة والتفتت إليه مستكلمة حديثها:
والدتي لازالت على قيد الحياة تعيش معي في منزلي مريضة تحتاج إلى مبلغ من المال شهرياً للعلاج..
فشل في أن يرى بصيص أمل .. أسند ظهره على مقعد السيارة ، لم تخرج من حلقومه سوى كلمة..آآآآآآه
حزن .. عرض المساعدة رفضت فأقنعها..
خرج من سيارتها على بعد خطوات توجد ماكينة صرف آلي خرج الفيزا كارد وأتم عملية سحب مبلغ من المال كان قد وفره من عمله..
عاد إليها قبل رأسها، وترك المبلغ ، وانصرف سارحًأ في ملكوت ربه.. لسانه حتى مقر عمله لم يردد سوى كلمتين ..........الحمدلله .