الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مصطفى الشيمى يكتب: «فى موقف بنها»

صدى البلد

رأيته أمامى وأنا فى طريقى إلى موقف عربات الأجرة ، فى البداية لم أنتبه تمامًا ، ولما دققت فيه أيقنت أنه هو وصحت :
" أستاذ عبد المعطى ؟! "
فتح هو فمه فظهرت سنته المكسورة ، كان يود أن  يقول شيئًا ما ولكنه لم يفعل . مرت رجفة سريعة فى الانتفاخ الخفيف أسفل عينيه  ورفع يديه وراح يضغطهما ويطقطق مفاصل أصابعه .
و رد  بفتور " أهلاً يا أستاذ . "
الناس مسافرين وعائدين  يحتكون بنا ، أحماض اليوريك تبقع الحواط والأركان والرائحة تملأ الأنف .  كنا نقف فى ساحة الموقف المزدحمة ، وسط بائعات يجلسن على الأرض أمامهم حلل و مشنات ممتلئة بقطع الجبن القريش والزبد البلدي ،  تنادى أحدهم على أرغفة العيش والفطير البيتى الكبير ، والأخرى تمسح عرقها بطرف طرحة سوداء بالية و تهش بيديها الذباب عن كومة طماطم تصر على أن تبيعها ثم تطلق زفيراً محملاً بآهات عميقة و مؤلمة .
حاولت أن أتحرك به جانبًا بعيدا عن القمامة والمارة ، لكنه قلص عضلاته وظل ثابتاً يتطلع لى بعينيه الرماديتين من وراء زجاج نظارته التى تحتاج إلى تنظيف وإزالة الخدوش . أتذكر هيئته القديمة وهو يجلس وراء مكتبه يتفحص الموظفين بعناية ، كان شعره قد خف تمامًا وبهت لونه وبدت ثيابه كأنه ينام ويصحو بها . كان يعمل أمن ميدانى مكلف بتسجيل خروج وعودتهم الموظفين فقط . ولكنه نجح فى فرض سلطته على الجميع كرجل أمن حقيقى  يحمل" دبورة " على كتفيه . كنا نخشى الكلام أمامه لأنه يسجل الأنفاس ويبلغها بطريقة أسرع من البرق .
حاول أن يجتهد أمامى ويصبغ كلامه بالفصحة ولكن لم ينجح كالعادة .
قال : " سامحنى لامؤاخذة هو أنت رامى ولا عبد الحميد ؟ "
قلت : " لا دا ولا دا .  رامى اتنقل وعبد الحميد اترفد على أيدك . "
هز رأسه ببطء وقال " مظبوط .. مظبوط  .. أصلكم كنتم شبه بعض جداً " 
قلت " إنت فين بعد المعاش  ؟ "
كان يتهكم ويدعى دائمًا المرض رغم أنه يخلع كفى فى كل مرة اسلم عليه .
قال : عملت مشروع ، أنت عارف أنى عجوز وتعبت أكثر بعد ربع قرن من عمرى مطحون في الوظيفة و خرجت للمرض والشيب والمعاش لا يستر ولا يُغنى .
 سألته : " المشروع هنا فى المنطقة ؟ "
قال : " لا عندى فى الشقة "
كان يقف أمامى وقد فك تشابك يديه من على بطنه ، وبدت فى عينيه نظرة غريبة لا تدل على أى من الأشياء المعروفة ،  هززت رأسى ولم أعرف ماذا أفعل بعد ذلك ، ثم وجدته يخرج من الشنطة التى قبض عليها بين ساقيه ، مجموعة من أقلام الرصاص و ظل يعرضها علىّ حتى ظننت أنه يريدنى أن أشتريها ولكنه أعادها الى الشنطة وقال : دى عينات عشان منافذ التوزيع .
حينها حاولت أن أبدو سعيداً رغم أن أى أحد يرى المنتج لن يشترى منه أبداً  ، نظر فى ساعته وقال " أستاذنك "
واستدار و انصرف ، واتجهت انا إلى سيارات القاهرة ، كان السائق ينادى  " واحد مصر ...  واحد مصر " ، جلست في مؤخرة السيارة ورحت أبحث عنه حتى لمحته في الجانب الآخر من الموقف  وهو يقف مائلاً وقد اتكأ على طاولة محل البقالة يمسك بيديه حزمة أقلام الرصاص المربوطة ببعضها البعض. وقتها كان بوسعي أن أرى بنطلونه الساقط بين ساقيه من الخلف ونفس الجاكت الذى  كان يرتديه من أعوام سواء كنا تحت نار شمس الصيف أو لسعة برد الشتاء ... لم يخطر فى بالى وقتها إلا سؤال واحد فقط كنت أود أن أسأله له ... أين مئات الأوراق التى كان يسجل عليها أحاديث الموظفين وتحركاتهم ، رغم أن وظيفته الأساسية والأهم كانت حماية ممتلكات الشركة .