الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. سلامة عمر يكتب: الفرار إلى العلم

صدى البلد

لقد بدأت رسالة النبي ﷺ بأعظم عنوان للعلم وهو (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، فطلب العلم أشرف ما تُقضى فيه الأوقات، وتُبذل فيه الأموال، وتُستفرَغ فيه الجهود، وقد رفع الله -عز وجل- قدر أهل العلم لا لحسبٍ ولا لجاه ولا لمال، وإنما بسبب العلم: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة: 11]، وأجر العلم لا ينقطع حتى بعد موت الإنسان؛ ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة (رضي الله عنه) عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عملُه إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقةٍ جاريةٍ أو علمٍ ينتفعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له» (صحيح مسلم)، فطلب العلم  يتميز بلذته التي لا تُعادلها أيّ لذة من لذائذ الدنيا الزائلة، حيث يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: (في العِلْم بالأشياء لذَّة لا تُوازيها لذَّة؛ إذْ هو نوعٌ مِن الاستيلاء على المعلوم، والحَوْز له، ومحبَّة الاستيلاء قد جُبِلَت عليها النُّفوس، وميلت إليها القُلوب)، وهذا ثواب العلم وتعليمه في الآخرة.
  وطلب العلم سبب للتوفيق وبلوغ المراتب العالية في الدنيا فقد روى أبو يوسف ابن إبراهيم عن نفسه أن والده توفي ولم يكن يبلغ من العمر إلا عشرة أعوام، فدفعت به أمه للعمل لدى خياط واتفقت مع الخياط أن يتقاضى منه يوميًا درهمًا، فكان دائمًا ما يهرب من الخياط ويذهب إلى مجلس الإمام أبي حنيفة الذي يعقد يوميًا في المسجد القريب، وكان أبو يوسف صبيًا ذكيًا فطنًا تنبه له الإمام من خلال عمق الأسئلة التي يوجهها له، فاشتكى الخياط لوالدته أن ابنها دائما ما يهرب ولا يقوم بما أوكل إليه من أعمال، فذهبت أمه للبحث عنه فوجدته جالسًا في المسجد في حلقة للإمام أبي حنيفة فأخذت به وردته إلى الخياط، وتكرر هذا الموقف في عدة أيام متتالية حتى جاء يوم ولم تستطع المرأة التحمل فصرخت في وجه الإمام أبي حنيفة قاطعة درسه وموجهة له كيل من التهم والإهانات بعلة أنه سبب في فساد ابنها الذي يهرب يوميًا؛ ليحضر في مجلسه مما يؤدي إلى حرمانهم من الدرهم الذي يتقاضاه من الخياط والذي يستعينوا به على معايشهم، فقال لها الإمام: "يا بلهاء-قليلة العقل- إنما أعلمه ما يأكل به الفالوذج بدهن الفستق -نوع من الحلوى-، فلم ترد عليه وأخذت ابنها ومضت به إلى الخياط، وجاء اليوم التالي وقام الصبي بنفس الفعل، فلما ملت منه أمه تركته، ثم صار هذا الصبي في المستقبل أعظم تلاميذ الإمام أبي حنيفة، وقائد أتباع المذهب الحنفي بعد معلمه، وعينه الخليفة العباسي هارون الرشيد قاضيًا للقضاة، وهو مؤلف كتاب الخراج الذي بلغت شهرته الآفاق، والجدير بالذكر أيضًا أنه ذات يوم كان أبو يوسف جالسًا مع الرشيد وجيء له بحلوى يراها لأول مرة، وقال له الرشيد: كل يا أبا يوسف فليس يأتينا هذا الصنف في كل وقت! فقال أبو يوسف: ما هذا؟ فرد الرشيد هذا فالوذج بدهن الفستق، فابتسم أبو يوسف، فسأله الرشيد متعجبًا عن سبب تبسمه، فقال له أبو يوسف: تذكرت شيئًا، فسأله الرشيد أن يحدثه، فطلب أبو يوسف معافاته، إلا أن الرشيد ألح عليه فحدثه بقصته.
ونصيحتي لطالب العلم: بعد تقوى الله بإخلاص النية في طلب العلم؛ فقد جاء في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة - يعني ريحها – (أخرجه أبو داود)، والمثابرة والاجتهاد في طلب العلم والتدرجَ في مستوياته وعدم الخوض في أمور لم تحط بها علمًا، ففي الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري قال: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ-صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوسا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"، يا طالب العلم، اجتهد واصبر وسيُكافئك الله -عز وجل- نظير اجتهادك{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (سورة الكهف:30) أسأل الله أن يوفق طلابنا لكل خير وأن ينفع بهم البلاد والعباد.