الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

خبز التميس والوضع التعيس!

 

ذات مساء، وأنا أترجّل في أحد شوارع العاصمة الأمريكية واشنطن، لمحت من بعيد لافتة مضيئة، مكتوب عليها باللغة العربية (حلال) فقادني فضولي للذهاب إلى ذلك المكان لاكتشافه، وعندما وصلت إليه وجدته عبارة عن مطعم يقدّم اللحوم (الحلال) ويبدو مما ينبعث منه من رائحة أن أكله شهي للغاية، فقررت تناول وجبة فيه

وعندما دلفت إلى ذلك المطعم المزدحم سألت عن نوع الطعام الذي يقدمه، فقيل لي إنه مطعم "أفغاني"، فكان وقع الكلمة على نفسي مؤثراً، وتساءلت كيف لي أن أجد مطعمًا أفغانيًا في قلب العاصمة الأمريكية التي صدّر إعلامها للعالم صورة ذهنية معينة عن أفغانستان، بعدما تسببت حركة طالبان التي استولت على الحكم فيها عام 1996 في جعلها معقلاً للإرهاب والإرهابيين، حتى انتهى بها الحال بالاحتلال الأمريكي بعد أحداث سبتمبر عام 2001 وإزاحة طالبان من الحكم مع محاولة بناء نظام سياسي هناك يتماشى مع الهوى الأمريكي، واصطناع ديمقراطية هشة لم يشتد عودها بين مطرقة الاحتلال المسيطر وسندان مقاومة طالبان التي لاذت بجبال أفغانستان الوعرة مع من تبقى من التنظيمات الإرهابية التي كانت تستوطن هذا البلد الذي وفّر لها بيئة مناسبة للنمو والانتشار في ظل حكم طالبان الظلامي…

وما أن وضع النادل الأفغاني أمامي خبز التميس الأفغاني الساخن مع بعض المقبلات الأفغانية المميزة، حتى تجاذبت معه أطراف الحديث عن الطعام الأفغاني وعن أفغانستان وما آلت إليه الأوضاع هناك بعدما كانت كابول في الماضي أفضل مدن قارة آسيا حيث كانت شهادات جامعات ومدارس كابول الأكثر اعتمادًا من أكبر جامعات أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية في مطلع القرن الماضي، كما كانت أفغانستان معقلًا للديمقراطية والتحضّر في منتصف القرن العشرين مع ازدهار السياحة فيها وتطور مكانة المرأة ودورها في بناء المجتمع في ظل النظام الملكي الذي كان يحكمها حتى عام 1973 حين أُسقِط وتحولت أفغانستان إلى جمهورية، ولم تعرف بعدها الاستقرار حتى اختطفتها قوى الظلام الطالبانية التي عادت بها إلى ما قبل العصور الوسطى  

وحين قدّم النادل الطبق الرئيس الذي به من لحم الضأن الشهي المطهو بالطريقة الأفغانية بعدما استسغت ما قدمه من مقبلات وخبز متميز، سألني إن كنت سأتناول الشاي الأفغاني بعد الانتهاء من الأكل، فأجبته بأنني حريص على أن تكون تلك الوجبة وهذا الوقت أفغانيًا خالصًا، ثم سألته عن مصير طالبان في ظل الاحتلال الأمريكي وعن الوضع في قندهار ومرتفعات تورابورا التي كان يحتمي بها الإرهابيون، فلم أحصل على ما تطمئن به نفسي على الأوضاع هناك بعد أكثر من عقد من الزمن كان قد مرّ على دخول القوات الأمريكية للأراضي الأفغانية وتغيير النظام هناك

خرجتُ من المطعم الأفغاني والتجربة الأولى لي مع هذا الطعام بانطباعين، أولهما أن الثقافة الأفغانية عريقة و أن طعامهم شهي ويستحق التواجد في الكثير من الأماكن في العالم للاستمتاع به، وثانيهما أن الوضع في أفغانستان ليس على ما يرام…

وظللت أتابع أخبار أفغانستان من وقت إلى آخر كلما سنحت الفرصة حتى اتّسمت الأخبار القادمة من هناك بالسخونة كما خبزهم التميس بعدما قررت الولايات المتحدة سحب قواتها من هناك، وقامت بالفعل بعمل ذلك بالتزامن مع تصاعد المواجهات بين القوات الحكومية الأفغانية التي أشرف الأمريكان على تدريبها من جهة وطالبان من جهة أخرى بعد عقدين من الزمن من إزاحتهم عن السلطة، حتى كانت المفاجأة بسيطرة طالبان على المدينة تلو الأخرى حتى دخلوا العاصمة كابول دون مقاومة بعد هروب الرئيس أشرف غني وانسحاب قوات الشرطة والجيش من مواقعها

وبعدما شاهد الأفغانيون دخول عناصر طالبان للقصر الرئاسي وسقوط البلد مرة أخرى في قبضة طالبان، شاهد العالم أصعب مشاهد دراما الواقع الحقيقية على شاشات التلفزة من محاولة هروب الكثير من المواطنين الأفغان متشبثين بأجنحة وهياكل الطائرات الحربية الأمريكية وسقوطهم من ارتفاعات شاهقة بعدما لم يعبأ الطيارون بهم بشكل مأساوي يفوق بكثير خيال الأفلام الأمريكية

إن ما حدث في مطار كابول بعد سقوطها صدمة تاريخية لن تنساها الذاكرة الإنسانية، تعبر عن فداحة ما يخاف الأفغان منه بعد سقوط بلدهم في يد حركة طالبان التي يعرفونها جيدًا رغم صعوبة وتعاسة الوضع الذي كانوا يعانون منه في السنوات الأخيرة

فهل تظل تدفع أفغانستان ثمن تغيير النظام الملكي الذي كان يحكمها قبل عام 1973 على يد رئيسها الأول داوود خان؟، وإلى متى سيظل هذا الشعب المغلوب على أمره يتحمل هذه التكلفة؟
وهل تتحمل الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي مسؤولية ما وصلت له الأوضاع في أفغانستان الآن؟، وماذا عساهم أن يفعلوا في مواجهة ظلام عقول هؤلاء الطالبانيين الذين يريدون أن يطفئوا جميع الأنوار في أفغانستان مرة أخرى؟

الكثير من الأسئلة تطرح نفسها في انتظار إجابات يكون أحد أبعادها دور الشعب الأفغاني نفسه في الحلول المقترحة.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط