الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

«حروب بر مصر 2021»: نهاية الربيع «الأوروبى - العربى» (2)

في كتابِه الذي صدر في 2015 تحت عنوانِ “الثورة وحال العنف في الشرق الأوسط” (2011-2015)، تساءل بوزارسلان حولَ الأسباب التي تؤدّي بالثورات العربيّة إلى العنف الذي نشهدُه في بعض البلدان، وإلى انهِيار بعضِ المجتَمعات. في كتابِه الجديدِ الذي أنجزَه مع غائيل دولوميستر Gaëlle Delemestre وعنوانه “ما هي الثورة؟ أميركا، فرنسا، العالم العربي 1873-2015”، يواصِل تساؤلَاتِه، مُحتفظاً بسؤال جوهرِي: كيف يُمكن للحظةٌ ثوريّةٌ أ تدقُّ فيه ساعةَ الحقيقةِ بالنسبة للأنظِمة والمجتَمعات المعنيَّة؟ يَستعيد الكاتبان الحدثَ الثوريّ ليس فقط فيما يشحنُه من تَوقّعاتٍ ومشاعرَ وحراكاتٍ ، ولكن أيضاً فيما يتضمَّنُه من طموحٍ للحرّيّة والمُساواة والعدالة الاجتماعية. وعليه، اختارَ الكاتبان ثلاثَ ثَورات للدراسة: 1- - الثورة الأميركيّة التي وصفَتها حنّة أرندت أنها “ثورة سياسية” ،  لأنها أدّت إلى “دستورٍ وضعَه الشعب والذي لا تستطيعُ الحكومة إحداثَ أيِّ تغيير فيه” ؛ 2- - الثورة الفرنسية، وهي “ثورةٌ اجتماعيّة”، بتعبيرِ أرندت ، لأنها كانَت تطمحُ إلى وضعِ حدٍّ للتمييزِ الطبقيّ ولأنّها أدخلَت مفهومَ حقوقِ الإنسان، المأخوذَ من فلسفة حقبة الأنوار؛ 3- -وأخيراً، الثورات العربية والتي - باعتبارِ المؤلِّفين- كانت تطمحُ إلى الانخراطِ في العالمِ البرجوازي، وذلك من خلالِ إشراكِ المواطنين في الحياة السياسية، كما في أوروبا، وأميركا الشمالية. لا يكتَفي هذا الكتابُ الكثيفُ والغنيّ بمقارنة الثورات التي اختارَها. فهو أيضاً يقدِّم رؤيَة تشيرُ إلى خصوصيّة كلٍّ منها، وتُظهِر، حسب قول بوزارسلان، كيف أنّ “الثورة الفرنسيّة كونها حدثاً ، أو شعوراً جارفاً، أو أملاً، تَبقى بعد قرنَين من اندلاعِها، لغزاً بالنسبةِ للعلوم الاجتماعيّة والفلسفة السياسيّة”. 

هَميت على بوزارسلان  مشروعُ مقارنةِ الثورتَين الفرنسية والأميركية قديمٌ، ويعودُ إلى ما قبلِ الثورات العربيّة عام 2011. لاحظتُ اهتمامَ المؤرِّخ فرنسوا فوري François Furet للآمالِ المعلّقة والمشاعر الثوريّة والمقارَنات التي قامَ بها بين التجاربِ الثورية. وكان كتاب “مشاعرُ ثوريةّ” جاهزاً حين سقطَ زين العابدين بن علي عام 2011، وقد تمّت كتابتُه عام 2009-2010، قارنتُ فيه بين الثورتَين الفرنسيّة والروسيّة في القرنَين التاسع عشر والعشرين. ومن ثم وسَّعتُ حقلَ البحثِ إلى العالم العربي، مع الكتابِ  هذا الكتاب والذي يضعُ الثَورات العربِيّة في إطارِ تاريخٍ شاملٍ للثورات.  كلُّ ثورةٍ تفتَحُ على هدفٍ مِثاليّ، يَتوازى مع تَوقُّعات مُنوَّعة ومتناقِضة. ليس العالم العربي استِثناء. إلا أنّه، خلافاً على ما حدثَ في فرنسا وروسيا وإيران، لم يُدخِل العالم العربيَّ إلى زمنٍ آخر، زمنٍ يكونُ آ انسانيا  (eschatologique )، يتجلَّى فيه مشروعُ إنسانٍ وإنسانية جديدَين على مَنأى من “الانحِطاط” والفساد، في زمنٍ جديد لا يَقبلُ التشكيكِ ويحقِّق حلمَ المدينة المثالية. لم تهدف الاحتِجاجات العربيّةُ سوى إلى دَمجِ المجتَمعات المعنِيّة في المَجمَع الديمقراطي البرجوازي العالمى .  بمعنى آخر، هدف هذا “الزمن الاخر ” يهدف الى  كَسرُ الأقفال التي تُغلِق الحقلَ السياسيَّ وجعلُ السلطة “مكاناً فارِغا” قبل استِحداث آليّة للدخولِ إليه، وِفقاً لتعبير كلود لوفور   Claude Lefort  (وبعده فتحي بن سالمة)  . لم يكن الهدفُ أن يكونَ هذا “المكانُ الفارِغ” مَفتوحاً لإعادة انتاج سلطةِ رئيس أو ملك، أو حزبٍ أو تكتُّلٍ سياسيٍّ عسكري إلى أجَلٍ غيرِ مسمّى ، بل أن تُصبحَ السلطة حَلبةً لحركةِ مواطنين قادرين دوماً على تحديد السلطة والبت بالقانون. أوَّل ما توارَد إلى ذِهن من ثَورات كانت الأوروبيّة: الثورة الفرنسية عام 18487 بالتأكيد. بعدَ ذلك بقرن، أتت نهايةُ الديكتاتوريّات في أوروبا الجنوبية عام 1974-1976، ثمَّ الخروجُ من الديكتاتورية في أميركا الجنوبية بين 1982-1986. وأخيراً، نهايَة الإمبراطوريّة السوفييتي. التي تبدأ مع انهِيار حائط برلين عام 1989. إلا أنَّ مقارنةَ ثورة 1848 كانت  حرجه، إذ إنَّ القوى الثوريّة التي أدّت إلى إسقاط مَلَكيّة يوليو، دونَ أن تتمكَّن من الاستمرار. وقد قال كارل ماركس في ذلك، وإلى حدٍّ ما ألكسي دو توكفيل Alexis de Tocqueville، لم يتحوَّل “الشعبُ الثوري” إلى “شعب فعليّ”.

إذا ما قورنَت بما حدثَ في أوروبا عام 18488 ،كانت فرصُ النجاح ضئيلةً بالنسبة للثورات العربيّة. فمن ناحية، إن لم تَستحوِذ القوى الثوريّة على السلطة كما تَوقع ذلك كارل ماركس وتوكفيل، وإن لم تُنتِج فيها ديكتاتوريّة شامله، بل فتحت مَجالاً لقوى “الأنظِمة القديمة” أو لتفاعُلات التفكُّك والعنف المتواجِدة والتي نَشهدها في أكثر من بلد. من ناحِيَة أخرى، قامَت القوّى الثوريّة بإحلالِ ديكتاتورية،  ووقعت ضحيَّة حمايةِ النظام الثوري الضروريّة لكي يصبحَ مستداماً، و وصارت  عاجزةً إلا عن تلبِيَة الطوارئ، مضحِّيَة بذلك بالحرية، التي كانت إحدى أهمّ المشاعرِ التي أدَّت إلى اشتِعالها. في عام 1848 كما في العالَم العربي، قامَ “الشعب الثوري” بخلعِ الحاكم، ولكنّه لم يَملك الشجاعةَ، أو الوسائل، أو ربَّما حتّى الإرادة لينصِّب نفسّه كسلطة. لذلك بقيَ النظامُ الأسبقُ مكانَه للآليّة الانتقالِية. في تونس كما في مصر، أدّى ذلك إلى استِتباب الأمن، و ولكنها  لم يُصَر إلى تجديدِ النخب ولا إلى نشرِ السلطة الجديدة في المجتمع من خلالِ المواطَنة الفاعلة. أمّا بالنسبة لمفعولِ الدومينو، فقد كانَ حاضراً في العالم العربي. وكما حصلَ عام 1848، نهضَ كلُّ بلدٍ وِفقاً لإشكاليّاته وآماله. وكما كتبَ ماركس، “كلُّ فصلٍ مُهمٍّ في دليل الثورة بين 1848 و1849 يَحملُ عنوان: فشل الثورة!”.

لذلك كانَ  القلق اكبيراً منذ 2011. كانت الرسالةُ السياسيّة قويّةً وواضِحة، وتزَحزَحت الخطوطُ أينما كان. ومع ذلك، كما في عام1848، عادَ النظامُ القديم  في مصر – وجزئياًّ في تونس-، أو كانَت التفاعُلات الاجتِماعية والسياسيّة باتِّجاه التغيير ضعيفة، لا سيَّما في الدوَل الأكثر حداثة ( ليبيا أو اليمن). فتركت الثورةُ خلفَها حالةً شديدة من التجزُّؤ في المرجعيَّة للمَكان والزمن.  عام 2013، خرجَنا من السيرورة الثوريّة بالمعنى الحرفيّ في اليَمن، في ليبيا، في سوريا وامتدادِها العراقي، رُغم أن العراق لم يَعرف احتِجاجات ثورية كبيرة. انتَهى الأمرُ  في مصر إلى قيام نظام بونابارتي.  في تونس، عادَ النظامُ القديم إلى السلطة، مع بَقاء نخبةٍ بن علي القديمة، وتحوّلت التكنوقراطيّة والبيروقراطية إلى قوى مُعطِّلة. مع ذلك، استطاعَ البلدُ إدارةَ تلك المرحلةِ ،  باللجوء إلى العنف لحلِّ الصراعات السياسية.

حين نُقارنُ ان النقاشات في أميركا اللاتينية وأوروبا الجنوبية من الجدلِ الدائرِ في العالم العربي قبلَ الثورات، يبدو لنا أنَّ الخطابَ في المنطقة يدورَ حولَ “اللعنَة العربيَة” والتي يتمُّ التعاملُ معها على أنَّها قدرٌ في عالم عربيٍّ محاصَر. حين انهارَ حائط برلين، وهو حدث تلى خروجَ أميركا اللاتينية من الأنِظمة الديكتاتورية العسكرية، عُلِّقت في العالم العربي آمالٌ كبيرة بديمقراطيّة آتية. وفي نظر كثير من المراقبين، اقترَبَ الموعِدُ الذي سيحطُّ فيه “طائر الديمقراطية” في العالم العربي. كانت خَيبَة الأمل. توقُّعاتٌ وآمالٌ بهذا الكمِّ أسفرَت عن شعورٍ كبير بالحرمان وتعبٍ شديد في المجتمعات. وكان سهلاً أن نتلمَّس ذلكَ الشعورَ “باللعنة العربية”  الذي زادَ منه نشوبُ حروبٍ اقليميّة جديدة. وباتَت هذه اللعنة موضوعَ الخطاب. على عَكس اليونان والبرتغال واسبانيا، وعلى خلافِ دول أميركا اللاتينية التي عاشت آليّات الخروج من الاستبداد، لم يَجرِ في العالم العربي نقاشٌ حول المُجتمَع الذي سيتمُّ بناؤه، ولا إلى الحالِ التي سيؤول إليها التغييرُ المنشود. لم يتمّ التفكيرُ بالشأن السياسي، ولا بالعلاقات الاجتماعية، ولا بالدينِ وبالطريقة التي يَستحوِذ فيها على مُجمل الحياة العامة. فأيَّ شكلٍ من أشكال التوافِق أو الخلاف ستتمُّ شرعنته؟  لم يكن هُناك في العالم العربي نِقاشات حادَّةٌ حولَ المواطَنة قبلَ عام 2011. كان هناك نتاجٌ فنِّيٌّ كبير، ونتاجٌ فكريٌّ فلسفيٌّ وسياسيٌّ غالباً دقيق، رغم أنّه كانَ محصوراً بأقلِّيَّة معارِضة، إنما النتاج الفكري المبني على رَأيٍ واضح، وعلى وجودِ آليَّةٍ للتحليل وعلى نظرةٍ نقديّة لم تزدهر. وهنا أيضاً نجدُ فرقاً مع دُوَل أوروبا الجنوبية التي كانت تعجُّ بالنقاشات في منتَصف السبعينات من القرن ماضى.

هذه الفوارق، تفسِّرُها عواملُ عديدة. فالسلطة والتوجُّهات الإسلاميّة عملت ما في وسعِها لتحويلِ العالم العربيِّ إلى صحراءَ فكريّة. تمَّ الحفاظ على المثقَّفين، إنما سُلِبوا من أيّة قدرةٍ على المغايَرة. بالإضافة إلى ذلك، لم يولِّد الإسلام السياسيّ تيّاراً فكرياً نقدياً. فتمَّ تهميشُ المفكرون المجدِّدون وفي الإسلام، وقهرُ النخبةِ الثقافية. ثمّة عاملٌ آخر كان له ثقله. في العالم العربي، لا زالَت الثقافة السياسية تتغذّى من الإسلام وممنوعاته، التي لم يتمَّ التفكير بها. في تعاليم الدولة الموْروثة من الفترة ما بين القرن السابع والقرن العاشر، والمبنيّة على عقيدة الطاعة، يتمُّ تفسيرُ الطغيان على أنَّه البديلُ الوحيد للفِتنة. في القرن العشرين، أضيفَ على هذه العقيدة خيالٌ قوميٌّ مَبنيٌّ على رؤية عضويّة للوحدة. بالطبعِ هذه النقطةُ ليست خاصّة بالعالم العربي: فقد عرفَ جزءٌ كبير من المجتَمعات الأوروبية، في فترة ما بين القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، “سيرورةَ تعنيف” جعلَت منها مَسرحاً للداروينيّة الاجتِماعية. ولكن إن أخذنا البعثَ في فترة 1950-1960 أو الجهاديّة، أو الطائفيّة في أعوام 2010-2011، تدلُّ كلُّ المؤشرات في المُجتمعات العربيّة إلى أن التعامُل مع “الشأن السياسي” فيها يتمُّ من خلالِ البحث عن النقاءِ والوِحدة، ومن خلالِ التعبئة ضدَّ “أعداء الداخل” المُتآمرين مع “أعداء الخارج”، وليس من خلال تكوينِ مساحةٍ تتصارعُ فيها أشكال مواطّنّة المختلفه.

 

 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط