يهلُّ العيد المبارك غداً.. وككلّ المناسبات المبهجة في هذا الوطن البهيج، لا يأتي كما يأتي في أماكن أخرى، من كان يتصور أن يكون حجاج بيت الله بالآلاف وكانوا يوما بالملايين وأن تكون خطبة العيد بالدقائق وكانت يوما تهز أركان المساجد وأن يكون العيد بالمصافحة من بعيد وأن يجلس أفراد الأسرة كل فى مكان.. لقد غيرت كورونا كل العلاقات بين البشر وليس هذا فى بلد دون آخر لقد غيرت كل شىء حتى الحج والصلوات والطقوس.
وكما يحمل العيد ثقافة مجتمعية ترتبط بالسرور والتكافل الاجتماعي، يرافق ذلك فرحة الأطفال والأمهات والأخوة وصلة الأرحام في تجمع عائلي . وهذه الفرحة التي ينتظرها الكبار والأطفال في طقوسها وثقافتها من لقاء الأحبة ودفء الأسرة وفرح الاولاد في الملابس واللعب، أما عيد الأضحى فله ميزة خاصة بوجود يوم عرفة ومراقبة مسار الحجاج في هذا اليوم، عدا عن التحضير لـ “الأضحية” التي تجمع الأهل على وجبة الغداء، وهذا برمته عبارة عن حراك وتفاعل اجتماعي انساني له تأثير خاص في النفس ويولد البهجة.
وما أجمل التسامح يوم العيد! ما أجمل أن يكون غُسل القلوب وغُسل الأبدان بماء واحد، فلا يخرج المرء من داره إلا وقد خلا قلبه من كدر الأحقاد، قد تتابعت على قلبه آيات العفو كالبرد على الظمأ: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) [الشورى: 37]، ( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) [الشورى: 43]، فيهتف قد صبرت وغفرت. فارتاحت نفسه من إلحاح الثأر الجهول، وهدأت أعصابه بعد أن انطفأت النار، وترمد الجمر، وانطوت صفحة سوداء - بإذن الله - إلى الأبد. لترتفع راية العز بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم: «ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله».
وإذا كان هذا مطلوبًا مع المسلمين جميعًا، فإنه يتأكد أكثر مع الأرحام.
لا فرحة في العيد لقاطع الرحم، ولقاطع الصلة مع الأهل والجيران والمجتمع، لأن أروع ما في العيد فرحة الناس، وتناسي الأحزان، والتسامح والمحبة التي تظهر على وجوه الصغار والكبار، وفرحة العيد لا تعادلها أي فرحة أبداً لأنها نابعة من القلوب فقد أوجدها الله في قلوب المسلمين، وهي فرحة تلقائية لا تحتاج إلى جهد أو انفعال أو تصنع، وكأنها تحط على النفوس ليلة العيد وتصبح في نفوس الجميع تعبيراً عن السعادة في هذا اليوم الذي يفطر الناس فيه بعد صيام عن شهوات البطن والفرج لمدة شهر كامل تقرباً إلى الله وطاعة له، وأعتقد أن أهم شيء يوم العيد أن يتصدق القادرون على الضعفاء والفقراء والأيتام والأرامل وذوي الحاجات، فهذا يغرس الفرح في نفوسهم ويجعل الحب في قلوبهم ويقربهم من الله جل وعلا، وأتمنى من الله أن يعود العيد على الجميع بالفرح والسعادة وعلى المسلمين بالوحدة والتآلف وجمع الكلمة ووحدة الصف إنه سميع قريب مجيب.
فكما جاء في الحديث القدسي: "أنا الله وأنا الرحمن... خلقت الرحم وشققت لها إسماً من إسمي؛ فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته"، وقوله (ص): "من سرّه أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه" (رواه مسلم). أما سعة الرزق؛ فلأن صلة الرحم تجلب محبتهم ومودتهم، وفي ظلال محبة الأهل والأقارب، يعيش الإنسان آمناً مطمئناً مقبلاً على عمله الذي جعله الله مصدر رزقه فيباركه له. وأما طول العمر؛ فمعناه بقاء ذكره الجميل وسيرته الحسنة (والإنسان سيرة بعده) فكأنه لم يمت، ما مثله إلا كمثل الذي لم ينقطع ذكره بموته، فهناك من يموت في الستين، ويبقى ذكره بعده مئات السنين، ومثل الذي لم ينقطع ذكره بموته بالعمل الصالح، والصدقة الجارية، والولد الصالح الذي يدعو له، وكما قيل: "وما المرء إلا ذكره ومآثره".
إن علينا أن نقبل العذر ممن يعتذر، وأن نقابل القطيعة بالوصل، فـ«ليس المواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها» كما قال حبيبنا صلى الله عليه وسلم، كما عند أبي داود وصححه الألباني.
إن أسرة الإنسان وأرحامه هم عُدّته وسنده، وهم قُوته ومفزعه. فمهما كانت أصالة الأصدقاء ونبلهم، فإنهم لن يصلوا - في النوائب - في مستوى تحنن الأرحام واستعدادهم، ومهما تجذرت العداوات والخلافات بين الأرحام فلا بد من العود - ولو بعد أمد - إلى لئم الجراح، وإعادة العلائق، بينما قد تدوم القطيعة بين الغرباء أبد الدهر؛ لأنه لا يوجد عنصر - كالدم - يستطيع أن يشد المتقاطعين ولو بعد أجيال.
خلاصة القول:
إن العيد فرصة عظيمة لأجمل نسيان في الوجود، وهو نسيان أخطاء أرحامك في حقك، لتعود القلوب صافية نقية كما كانت. فهلا عزمت - أخي المسلم - أن تطوي كل ما قد تراكم في قلبك عبر السنين بينك وبين أرحامك، وأن تبدأ حياة جديدة غير منغصة بالحقد على أحد، فما أشقى الْحُسّاد، وما أشد مرض الحاقدين. عافاني الله وإياكم من أمراض القلب وآفاته؛ حتى نعيش عيدنا المبارك، ونحن في أحسن حال، وأطهر قلب، وأكرم نفس.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وأغننا برحمتك يا حي يا قيوم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، واجعلنا من أهل جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.