حين دلوفي إلى منزلي،شاهدت فيلما سينمائيا قديما يتناول حياة شهيدة العشق الالهي السيدة "رابعة العدوية"وحيث أنني قد شاهدت هذا الفيلم قبل ذلكأيام الطفولة والصبامشاهدة عابرة لم أقف عند فصولها وأحداثها،بل كل ما فهمته أن القصة لسيدة بدأت حياتها باللهو والمجون ثم عادت إلى ربها تائبة .
ومع توالي الأيام والأحداث،ولنزعتي الصوفية و الروحانية بعد ذلك، أخذت طريقي نحو البحث والقراءة لتغذية قريحتي في الكتابةبصفتي كاتبا لأنقل للباحثين عن الحقيقة في دنيا الناس عصارة فكري وجهدي المقل .
وببحث وتنقيب تامين، تبين كيف أن الفيلم ظلم رابعة العدوية ظلما شنيعا،فلم تكن في يوم من الأيام ذات خلاعة أو راقصة،وإن كان هذا لا يقدح في سيرة العائدين الى معية خالقهم بيقين وثبات على الطاعة .
وإذا كانت رابعة عزفت على الناي كموهبة اشتهرت بها بين أقرانها منذ طفولتها،الا أن هذه الموهبة لم يثبت أنها وظفتها في غير نطاقها السليم،كما روج لها كاتب القصة وصانع السيناريست وبطلة العمل!
«فمن لم تهتز روحه إلى الناي وأشجانه والعود وألحانه فما هو غير فاسد المزاج ليس له علاج » .
لم تولد رابعة متصوِّفة، ولم تكن من بيت معروف عنه الزهد، إنما كان لتصوُّفها وتعبُّدها وزهدها قصة تُروى، نقلتها من حال إلى حال.
ويقال إن رابعة كانت ذات يوم تسير وحيدة فى طريق، لا أنيس لها ولا حارس، وكان ثمة رجل يسير خلفها، ويحدق فيها، ويضمر لها السوء. لمحته رابعة فأسرعت الخطى، بقدر ما وسعتها قدماها، وهدها التعب فوقعت على وجهها، وراحت تناجى ربها: {يا إلهى إننى غريبة يتيمة، أرسف فى قيود الرق، لكن همى الكبير هو أن أعرف، أراضٍ أنت عنى أم غير راض} فكانت نجاتها,وكيف لا وقد سبقت لها من الله العناية ولوحظت منذ القدم بمقام الولاية؟
إن حالة السمو الروحاني التي شهدتها رابعة جعلتها حديث القاصي والداني وهي بذلك كانت ضحية عبر الدراما المعاصرة من خلال المزايدين على تاريخها وتصوفها المشرق بالأنوار .
ولدت مترجمتنا في البصرة لعام"١٠٠"من الهجرة لأسرة فقيرة الحال، حتى ان فريد الدين العطار،ينقل لنا:"...إثر ولادتها، لم يجد والدها في بيته زيتا،أو سمنا يدهن به مكان خلاصها!
فتحرك بين الجيران سائلا، فلم يجيبوه فعاد إلى داره المتواضعة منزويا حزينا، حتى غلبه النعاس فإذا به يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يمسح على رأسه قائلاً: لا تحزن، فإن لمولودتك شأنا عظيما،وإن سبعين ألفاً من أمتي ليرجون شفاعتها" .
إنها رابعة العدوية_شهيدة العشق الإلهي،من ذاع صيتها،وضربت شهرتها في الآفاق،فلا يكاد يذكر العشق الإلهي، إلا حين تذكر رابعة،ولا تذكر رابعة إلا حين يذكر التصوف،فهي أشهر من نار على علم،حيث تصدرت الصفحات الأولى من تاريخ الإسلام العظيم .
اسمها رابعة بنت إسماعيل العدوية، تكنى بـ”أم الخير”.
أنجب والداها أربع بنات، هي رابعهن، لذلك سميت برابعة.
أما لقب العدوية، فقد لحق بها لانتمائها لقبيلة تدعى بني عدوة على أرجح الأقوال .
ولما كانت الحياة لا تدوم على حال,ودائما تأتي الرياح فيها بما لا تشتهي السفن،فقد قال القدر كلمته بأن
يتمَت رابعة وهي لم تبلغ عشر سنوات، ثم ما لبثت الأم أن لحقت بالأب… كانت وأخواتها يعشن في فقر مدقع، فعانين بعد وفاة الوالدين أكثر وأكثر؛ إذ جاء في كتاب“تذكرة الأولياء”، أن أباهن لم يترك لهن سوى قاربا يقل الناس في أحد أنهار البصرة بدراهم معدودة!
إنها البدايات القاسية التي تصنع العظماء مرتفعين من قاع الدونية إلى قمة الشرف والمجد الأبدي،فكما قال العارفين بالله:"من كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة" .
ثم تأبى الأيام إلا أن تعاود على رابعة كرتها الثانية فتفرقها عن إخوتها الثلاثة وأي بلاء يعدل بلاء فقدان الأهل والعشيرة،فإذا كان في عرفنا البشري أنه جرح لا يندمل إلا أن ما ينتظر رابعة هناك فوق مقاييس البشر وهو القرب من حضرة الخالق جل في علاه(فكل تعلق بغير الله ينهار) ..
بيعت رابعة بستة دراهم لسيد اعتاد أن يثقل عليها العمل ويحملها ما لا تطيق، وهو ما اضطرها إلى الهرب، وبينما هى فى تيهها سمعت صوتا يناجيها فى الفضاء الرحب:"لا تحزنى، ففى يوم الحساب يتطلع المقربون من السماء إليك ويحسدونك على ما ستكونين فيه"!
كانت هذه هى الإشارة الأولى لما سيكون عليه النصف الثانى من حياتها، لكن سيدها عثر عليها وعادت من جديد لسيرتها الأولى، لكن شيئا ما كان يؤلمها ويربك استمتاعها بما ألفته، وحاصرها الصوت الذى سمعته فى تيهها ليالى طوالا، وفى إحدى الليالى التى اعتادت أن تخلو فيها إلى نفسها تشكو ضعفها وقلة حيلتها وعجزها الكامل راقبها سيدها، ورأى من ثقب الباب قنديلا معلقا فى الهواء يلاحقها أينما ذهبت، فلما أصبح الصبح أعتقها، فودّعته وقررت من لحظتها أن تنقطع للعبادة، لتبدأ النصف الثانى من رحلتها سائرة في طريقها نحو حضرة خالقها سبحانه وتعالى فلا تلتفت إلى سواه .
يقال ان الحسن البصرى سألها ذات يوم: هل ترغبين فى النكاح؟
فقالت: إن عقد النكاح يجرى على وجود.
والوجود معدوم هنا،فإن نفسى أعدمتنى الوجود وإننى وجدت به، وكليتى متعلقة به، وفى ظل حكمه.
فقال لها الحسن: كيف تعرفين ذلك؟
فقالت: يا حسن أنت تعرفه بدليل، ونحن نعرفه بلا دليل!
و بهذا نرى أن السمة الكبرى في مذهب رابعة العدوية في التصوف أنَّها من أوائل من قال في الحبِّ الإلهي الخالص لأجل الحبِّ، لا خوفاً من النار ولا طمعاً بالجنة وإنَّما الحبُّ الخالص لله تعالى وكان قصدها من ذلك أنَّها لا تحبس نفسها رغبةً في النجاة من العقاب والحصول على الثواب وحسب، وهي لم تنفي الرجاء في النجاة والثواب إنَّما قدَّمت عليه الحبَّ الخالص، وقد قالت في حبِّها هذا أروع أبيات التصوف:
أحبّك حبّيْن حُبّ الهوى
وحُبّاً لأنك أهل لذاكَ
فأمَّا الَّذي هو حُبّ الهوى
فشُغلي بذكركَ عمَّن سِواكَ
وأمَّا الَّذي أنتَ أهلٌ لهُ
فكشفكَ للحُجبِ حتَّى أراكَ
فما الحمدُ في ذا وذاكَ لي
ولكن لكَ الحمدُ في ذا وذاكَ
فهي بذلك وضعت حجر أساس لفلسفة جديدة في التصوف الاسلامي ألا وهي فلسفة عبادة الأحرار وكيف كانت حياتها مضيئة كتبتها أسطر التاريخ على صفحات ناصعة البياض من الفضة .