تشرئب الأعناق شوقاً وتهفو الأفئدة حباً إلى ذلك اليوم المبارك - يوم عرفة - الذي جعله الله - عزّ وجل - يوماً ليس ككل الأيام، حيث يمثّل يوم عرفة الركن الأكبر والأهم ضمن مناسك الحج، وبدونه لا تكتمل الفريضة، ومن خصائص هذا اليوم العظيم تلك الخطبة التي هي سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم، حيث ألقى النبي في هذا اليوم خطبة الوداع في السنة العاشرة للهجرة التي ختم بها رسالته إلى الإنسانية بعد أن أنزل الله عليه الآية الكريمة التي قال فيها أحد اليهود للخليفة عمر بن الخطاب "إن في قرآنكم آية تقرؤونها لو كانت قد نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا يوم نزولها عيداً"، قال عمر: وما هي؟ قال اليهودي: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3]
وقد ألقى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الخطبة التي ورد نصها كأول وثيقة لحقوق الإنسان العالمية لما لها من أهمية عظمى في هذا السياق في العديد من الدراسات المهتمة بحقوق الإنسان في الكثير من الجامعات والمعاهد حول العالم…
وبالنظر فيما جاء في هذه الخطبة، نجد كمّاً غزيراً من الأنوار التي تضيء الدنيا إلى يوم الساعة، فقد وضع النبي في هذه الخطبة القصيرة منهج حياة كاملة
فحين يقول النبي: "أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا – ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها"
فلا يحتاج النص إلى تفسير أو توضيح أو شرح في حرمة الدم والعِرض، وأداء الأمانات إلى أهلها، فمن يقتل دون حق أو يظلم أو ينتهك أعراضاً أو يأكل مالاً ليس له فقد حنث بعهد النبي وحاد عن جادته
ولقد وضع النبي - صلى الله عليه وسلم- ميثاقاً في هذه الخطبة العظيمة يحفظ للمرأة حقوقها ويحدد طبيعة التعامل الصحيح بين الرجال والنساء حين قال: "واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً – ألا هل بلغت، اللهم فاشهد"
وقد نادى - صلى الله عليه وسلم - بالمساواة بين المواطنين في شتى بقاع المعمورة حين قال في تلك الخطبة:
"أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى – ألا هل بلغت....اللهم فاشهد قالوا نعم – قال فليبلغ الشاهد الغائب"
كم كانت الكلمات بسيطة وسهلة حتى حين يتم ترجمتها إلى لغات أخرى، فهي تتلامس مع المعاني بتناغم تام، فتصل للمتلقي واضحة جلية...
وبهذه المناسبة الطيبة التي تمر على العالم أجمع للمرة الثانية في ذات الظروف الاستثنائية التي منعت حجاج بيت الله الحرام في ربوع الأرض من اغتنام فرصة الوقوف بهذا المقام في عرفة وأداء مناسك الحج للعام الثاني على التوالي بسبب تلك الجائحة، ندعو العالم أجمع أن يتخذ من يوم عرفة هذا العام يوماً لمراجعة حقوق الإنسان في الحياة والعيش بكرامة والمساواة، ونبذ العنف والصراعات، إنطلاقاً من أن أول إعلان لتلك الحقوق كان في هذا اليوم المبارك، ولعل ذلك يكون بداية انكسار لتلك الجائحة عن العالم واستعادة الاستقرار والحياة الطبيعية مرة أخرى، فلندعو جميعاً مخلصين أن يمد الله يده لينقذ هذا العالم مما هو فيه في يوم عرفة… كل عام والعالم بخير.