الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

العرّاف والسيف

 

في عام 838 ميلادية حدث اعتداء من الروم (البيزنطيين) على بعض المدن الحدودية للدولة العباسية المتاخمة لحدود الدولة البيزنطية (شرق تركيا حالياً)، وكان من بين هذه المدن مدينة صغيرة تدعى (ملطية)، قام الجنود الرومان بدخولها وتخريبها وأسر عدد كبير من نسائها ما جعل إحداهن وتدعى (شراة العلوية) ترسل استغاثها الشهيرة (وا معتصماه) للخليفة العباسي آنذاك (المعتصم بالله) لنجدة تلك النسوة الأسيرات والانتقام لهن من هؤلاء الرومان المعتدين...

اجتمع الخليفة المعتصم بالله بمستشاريه لمناقشة الأمر واتخاذ القرارات الصحيحة كما استطلع رأي أحد العرّافين - كما كان يحدث حينها - ليقرأ له الطالع إذا ما اتخذ قرار الدخول في حرب مع الرومان من أجل نصرة هؤلاء الرعايا الطالبين لحمايته ودعمه، لكن الطالع الذي كان ينتظره بحسب هذا العرّاف لم يكن جيداً، حيث كانت النصيحة بتجنب الصراع مع الرومان في ذلك الوقت سيما أنه كانت هناك هدنة بين العباسيين والرومان امتدت لعشرين عاماً بعد قرنين من الزمن استمرت فيهما الحروب بين الطرفين، لم يخرق تلك الهدنة إلا هذه الاعتداءات والمناوشات التي كان سببها استعانة بعض خصوم المعتصم بالله الداخليين بالإمبراطور الروماني الشاب (ثيوفيلوس) الذي كان قد وصل إلى عرش الدولة البيزنطية قبل عقد من الزمن، حافظ فيه على هذه الهدنة حتى استجاب لذلك التحريض الآتِ من داخل الدولة العباسية

وبرغم تلك النبوءة الغير مُبشرة اتخذ الخليفة المعتصم بالله قرار الاستجابة لاستغاثة هذه المرأة والثأر لكرامة تلك النساء ومعاقبة الرومان على تجرؤهم على حدود دولته وعدم التزامهم ببنود الهدنة المُبرمة منذ عقدين من الزمن…

ثم كان في في مثل هذه الأيام من شهر يوليو تسيير الجيوش بقيادة المعتصم بالله بنفسه للحدود مع الدولة البيزنطية والتوغل بداخلها حتى (عمورية) - مسقط رأس الإمبراطور - جنوب شرق (القسطنطينية) ومحاصرتها لأحد عشر يوماً، أرسل فيها الإمبراطور البيزنطي يطلب العفو والصلح، على أن يعيد بناء مدينة (ملطية) التي خربها ويعيد الأسرى ويعوّض العباسيين عن الخسائر التي ألحقها بهم من قبل، لكن المعتصم بالله لم يقبل و دخل عمورية وانتصر في تلك الحرب انتصاراً مؤزّراً، أعاد فيه هيبة الدولة العباسية وكسر صلف وغرور الإمبراطور البيزنطي الذي مرض بعدها من حزنه على الهزيمة في مسقط رأسه ومات متأثرًا بهذا المرض في ريعان شبابه بعد أن ثأر العباسيون والمعتصم لهؤلاء النسوة اللاتي استجرن به فأجارهن …

ولنا في هذه القصة العبرة من أنه في بعض الأحيان لا بد من أن تقسو على عدوك ولا تأخذك به شفقة حتى يتأدب ويلزم حدوده ومقامه ولا تسوّل له نفسه أن يستفزك أو يختبر صبرك حتى ولو كان حولك مَن يخيفونك من ردود الأفعال، طالما كان معك الحق ولديك القدرة…

ومن وحي هذه القصة كانت قصيدة أبي تمّام الشهيرة التي أصبحت كلماتها المُعبرة علامة بارزة في الشعر والبيان، حيث قال في بعض أبياتها المُختارة والتي تنطبق على كثير مما يمر من أحداث:

السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ* في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ

بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ * في مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ

أَينَ الرِوايَةُ بَل أَينَ النُجومُ وَما * صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَذِبِ

تَخَرُّصاً وَأَحاديثاً مُلَفَّقَةً * لَيسَت بِنَبعٍ إِذا عُدَّت وَلا غَرَبِ

عَجائِباً زَعَموا الأَيّامَ مُجفِلَةً * عَنهُنَّ في صَفَرِ الأَصفارِ أَو رَجَبِ

وَخَوَّفوا الناسَ مِن دَهياءَ مُظلِمَةٍ * إِذا بَدا الكَوكَبُ الغَربِيُّ ذو الذَنَبِ

وَصَيَّروا الأَبرُجَ العُليا مُرَتَّبَةً * ما كانَ مُنقَلِباً أَو غَيرَ مُنقَلِبِ

يَقضونَ بِالأَمرِ عَنها وَهيَ غافِلَةٌ * ما دارَ في فُلُكٍ مِنها وَفي قُطُبِ

فَتحُ الفُتوحِ تَعالى أَن يُحيطَ بِهِ * نَظمٌ مِنَ الشِعرِ أَو نَثرٌ مِنَ الخُطَبِ

فَتحٌ تَفَتَّحُ أَبوابُ السَماءِ لَهُ  * وَتَبرُزُ الأَرضُ في أَثوابِها القُشُبِ

يا يَومَ وَقعَةِ عَمّورِيَّةَ اِنصَرَفَت *  مِنكَ المُنى حُفَّلاً مَعسولَةَ الحَلَبِ

مِن عَهدِ إِسكَندَرٍ أَو قَبلَ ذَلِكَ قَد * شابَت نَواصي اللَيالي وَهيَ لَم تَشِبِ

أَتَتهُمُ الكُربَةُ السَوداءُ سادِرَةً  *  مِنها وَكانَ اِسمُها فَرّاجَةَ الكُرَبِ

جَرى لَها الفَألُ بَرحاً يَومَ أَنقَرَةٍ * إِذ غودِرَت وَحشَةَ الساحاتِ وَالرُحَبِ

لَمّا رَأَت أُختَها بِالأَمسِ قَد خَرِبَت * كانَ الخَرابُ لَها أَعدى مِنَ الجَرَبِ

غادَرتَ فيها بَهيمَ اللَيلِ وَهوَ ضُحىً * يَشُلُّهُ وَسطَها صُبحٌ مِنَ اللَهَبِ

حَتّى كَأَنَّ جَلابيبَ الدُجى رَغِبَت * عَن لَونِها وَكَأَنَّ الشَمسَ لَم تَغِبِ

ضَوءٌ مِنَ النارِ وَالظَلماءِ عاكِفَةٌ * وَظُلمَةٌ مِن دُخانٍ في ضُحىً شَحِبِ

فَالشَمسُ طالِعَةٌ مِن ذا وَقَد أَفَلَت * وَالشَمسُ واجِبَةٌ مِن ذا وَلَم تَجِبِ

تَصَرَّحَ الدَهرُ تَصريحَ الغَمامِ لَها *عَن يَومِ هَيجاءَ مِنها طاهِرٍ جُنُبِ

لَم تَطلُعِ الشَمسُ فيهِ يَومَ ذاكَ عَلى * بانٍ بِأَهلٍ وَلَم تَغرُب عَلى عَزَبِ

وَحُسنُ مُنقَلَبٍ تَبقى عَواقِبُهُ * جاءَت بَشاشَتُهُ مِن سوءِ مُنقَلَبِ

لَبَّيتَ صَوتاً زِبَطرِيّاً هَرَقتَ لَهُ * كَأسَ الكَرى وَرُضابَ الخُرَّدِ العُرُبِ

هَيهاتَ زُعزِعَتِ الأَرضُ الوَقورُ بِهِ *عَن غَزوِ مُحتَسِبٍ لا غَزوِ مُكتَسِبِ

إِنَّ الأُسودَ أُسودَ الغيلِ هِمَّتُها * يَومَ الكَريهَةِ في المَسلوبِ لا السَلَبِ

وَالحَربُ قائِمَةٌ في مَأزِقٍ لَجِجٍ *  تَجثو القِيامُ بِهِ صُغراً عَلى الرُكَبِ

فَبَينَ أَيّامِكَ اللاتي نُصِرتَ بِها *  وَبَينَ أَيّامِ بَدرٍ أَقرَبُ النَسَبِ

أَبقَت بَني الأَصفَرِ المِمراضِ كَاِسمِهِمُ * صُفرَ الوُجوهِ وَجَلَّت أَوجُهَ العَرَبِ.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط