كانت الشوارع تمتلئ بحناجر المتظاهرين الغاضبين الذين أحرقوا الإطارات واقتحموا البنوك وسرقوا المتاجر، وذلك وسط قيام العصابات، عقب الحصول على تصريح من الشرطة في كثير من الأحيان، بخطف الراهبات وبائعي الفاكهة وحتى تلميذات المدارس من أجل الحصول على فدية، هكذا ظل الوضع على مدى شهور في هايتي، دولة البحر الكاريبي.
وعقب هذه المعاناة الشديدة، انزلقت البلاد بشكل أعمق في الاضطرابات، عندما توغلت مجموعة من المسلحين بكل جراءة إلى منزل الرئيس، جوفينيل مويس، في منتصف الليل وقتلته بالرصاص.
في كل مرة تقريبا يعتقد الهايتيون أن ظروفهم لا يمكن أن تزداد سوءا، يزداد بعدها الوضع اضطرابا، حيث تتأرجح الآن وسط فراغ سياسي وشيك، بدون رئيس أو برلمان أو محكمة عليا عاملة، هكذا ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية.
أثار ما تعرضت له بعض البلدان في العالم من تدهور الأوضاع السياسية وعلى رأسها أفغانستان والصومال، التي استحوذت على اهتمام العالم بسبب الاضطرابات التي تواجهها. ليصبح تساؤل الناس: كيف يمكن أن يحدث نفس السيناريو في هايتي؟
هايتي المستعمرة الفرنسية
يعود تاريخ هايتي المضطرب، إلى جذورها كمستعمرة عبيد سابقة لفرنسا والتي نالت استقلالها في عام 1804 بعد هزيمة قوات نابليون بونابرت، وعانت فيما بعد أكثر من عقدين من الدكتاتورية الوحشية التي انتهت في عام 1986.
وبعد ذلك، دمر زلزال البلاد في عام 2010، وبدا أن تدفق المساعدات الأجنبية وقوات حفظ السلام أدى إلى تفاقم مشاكل البلاد وعدم استقرارها.
لم تحدث إخفاقات هايتي من فراغ، حيث تلقت هذه الدولة مساعدات من المجتمع الدولي، الذي ضخ 13 مليار دولار من المساعدات إلى البلاد على مدى العقد الماضي. لكن بدلا من بناء الدولة الذي كان من المفترض أن تحققه الأموال، أصبحت مؤسسات هايتي أكثر فراغا في السنوات الأخيرة.
وسمح الرئيس مويس بانتهاء ولاية البرلمان العام الماضي، وتركت هايتي تحت سيطرة 11 نائبا منتخبا، الرئيس مويس إلى جانب 10 أعضاء في مجلس الشيوخ، لبلد سكانها 11 مليون نسمة، مما أثار غضبا كبيرا داخل الشارع، لكن دون اي ردود فعل قوية من واشنطن. وخلال العام ونصف العام التاليين، وحتى اغتياله، كان السيد مويس يحكم بمرسوم رئاسي.
قالت "نيويورك تايمز" إن هايتي ليست دولة فاشلة بقدر ما يسميه محللين بـ "دولة المعونات"، حيث تكسب وجودها بالاعتماد على مليارات الدولارات من المجتمع الدولي.
كانت الحكومات الأجنبية غير مستعدة لإغلاق حنفيات الأموال إلى هايتي، خوفا من السماح لهايتي بالفشل. لكن الأموال كانت بمثابة شريان حياة معقد للسياسيين، ما ترك الحكومة مع القليل من الحوافز لتنفيذ الإصلاحات المؤسسية اللازمة لإعادة بناء البلاد، حيث تراهن على أنه في كل مرة يزداد فيها الوضع سوءا، ستفتح الحكومات الدولية خزائنها لتزويد هايتي بالاموال، كما يقول محللون ونشطاء.
دعمت هذه المساعدات البلاد وقادتها، حيث قدمت خدمات وإمدادات حيوية في بلد كان في أمس الحاجة إلى كميات هائلة من المساعدات الإنسانية. لكنه سمح أيضا للفساد والعنف والشلل السياسي بالمرور دون رادع.
على الرغم من إنكارهم لذلك، فقد اعتمد السياسيون في هايتي، بما في ذلك الحكومة، على العصابات للتأثير في الانتخابات لصالحهم وتوسيع نفوذهم السياسي.
خلال السنوات الثلاث الأخيرة من ولاية مويس، أدت أكثر من اثنتي عشرة مجزرة على يد عصابات مرتبطة بالحكومة وقوات الشرطة إلى مقتل أكثر من 400 شخص في الأحياء المناهضة للحكومة وتشريد 1.5 مليون شخص، ومع ذلك لم تتم محاسبة أحد على الجرائم.
وعندما تندلع فضيحة سياسية، أو جريمة ضد حقوق الإنسان، تصدر الحكومة الأمريكية إدانات من ورق يتم إلقاؤها من النافذة دون أي اعتبارات من أحد.
ويشير قادة المجتمع المدني في هايتي إلى أن الولايات المتحدة بدلا من تبني الطريق لتنفيذ إصلاحات وإنشاء نظام ناجح في هايتي، دعمت رجالا أقوياء وربطت مصير الأمة بهم.
وندد العديد من الهايتيين مرارا بدعم الولايات المتحدة للرئيس الراحل مويس، لكنهم قالوا إن لديهم القليل من القوة لوقفه.
فيما قالت إيمانويلا دويون، خبيرة السياسة الهايتية التي أدلت بشهادتها أمام الكونجرس الأمريكي في وقت سابق من العام الجاري 2021: "منذ عام 2018، ونحن نطالب بالمساءلة عن ما يحدث في هايتي"، وحثت واشنطن على تغيير سياستها الخارجية ونهج المساعدة لهايتي.
واضافت: "نحن بحاجة إلى أن يتوقف المجتمع الدولي عن فرض ما يعتقد أنه صحيح وأن يفكر بدلا من ذلك في المدى الطويل والاستقرار داخل هايتي".
كما صرح محللون آخرون بأن الولايات المتحدة بحاجة إلى ربط المساعدات المقدمة لهايتي بشرط قيام قادتها بتنظيف وإصلاح مؤسسات الدولة، وكذلك محاسبة الشخصيات ذات النفوذ على أعمال العنف والفساد التي تتخلل كل جانب من جوانب البلاد.
ومن جانبه، قال جيك جونستون، باحث مشارك في مركز الاقتصاد والسياسة: "سيكون هناك الكثير من الدعوات للتدخل الدولي وإرسال القوات إلى هايتي، لكن من المهم أن نتراجع خطوة إلى الوراء ونرى كيف ساهم التدخل الدولي في هذا الوضع".
وقال جونستون: "لقد تم بالفعل إنفاق مليارات الدولارات على ما يسمى ببناء الدولة في هايتي، والذي ساهم فقط في تآكل الدولة وتسييس هذه المؤسسات"، مضيفا: "لنقول الآن أننا بحاجة إلى القيام بالمزيد من هذا، هذا لن ينجح".
تخلل حادث اغتيال الرئيس الهايتي، أمس الأربعاء، مع عقد العنف الذي شهدته البلا، حيث داهم القتلة مجمع السيد مويس، الذي وصل إلى السلطة في عام 2016، وفاز في الانتخابات بحوالي 600 ألف صوت فقط، في انتخابات أدلى فيها 18 في المائة فقط من الناخبين بأصواتهم، وكانت هناك اتهامات واسعة النطاق بالتزوير.
ومع ذلك، دعمت الولايات المتحدة الزعيم الذي لا يحظى بشعبية والمثير للجدل، وحصل مويس على دعم كبير وسط دعوات للإطاحة به في عام 2019 عندما تم اكتشاف اختفاء المساعدات الدولية المقدمة للحكومة.
وأصر مويس في فبراير الماضي على أنه سيبقى لمدة عام إضافي كرئيس لأنه مُنع من تولي المنصب لفترة طويلة أثناء التحقيق في اتهامات تزوير الانتخابات. وعلى الرغم من مطالب قادة المجتمع المدني بتنحيه، دعمته واشنطن.
وقال منتقدون إن تمسكه بالمنصب غير دستوري، وتفاقم الغضب في الشوارع، مما ألقى بالعاصمة بورت أو برنس في مزيد من الغموض والعنف.
وقالت "نيويورك تايمز" إن إدعاءات بناء الدولة التي شرعت فيها الولايات المتحدة وشركاؤها الدوليون في هايتي وحول العالم لم تفعل شيئا يذكر لإنشاء دول فاعلة، وبدلا من ذلك أوجدت نظاما مشكوكا فيه الجهات الفاعلة التي لديها القليل من الدعم الوطني، مثل الرئيس الراحل مويس، هي أسهل طريقة لتحقيق الاستقرار على المدى القصير.
ورأت الصحيفة أنه مع الدعم الأمريكي المستمر، أصبح مويس استبداديًا أكثر من قبل، حيث أصدر قانونا لمكافحة الإرهاب في أواخر العام الماضي كان واسعا للغاية بحيث يمكن استخدامه ضد المعارضين أيضا.
وفي وقت سابق من العام الجاري، أعلن أنه سيكتب دستورا جديدا، يمنح سلطات واسعة للجيش ويسمح للرؤساء المستقبليين بالترشح لولاية ثانية على التوالي. حيث قرر إجراء استفتاء على الدستور وانتخابات وطنية في سبتمبر المقبل، على الرغم من التحذيرات من أن إجراء انتخابات وسط الكثير من العنف من شأنه أن يحد من إقبال الناخبين ويجلب نفس الشخصيات السياسية إلى السلطة التي ساعدت في إحداث صراعات هايتي. ومع ذلك، دعمت الولايات المتحدة خطط مويس.