" أنت نسيتي تلبسي البطلون " ، هذه العبارة التي سخرت بها إحدى الموظفات بجامعة طنطا من ، حبيبة طارق، الطالبة بالصف الثاني ، بكلية الآداب بنفس الجامعة ، لارتدائها فستانا في قاعة الإمتحانات ، تعكس التغير الكبير الذي طرأ على تفكير العالم ، و ليس تفكير بعض المصريين فقط حيال إرتداء المرأة للبنطلون . فبعد أن كانت المرأة التي ترتدي بنطلونا تخضع للمساءلة القانونية لكونها خارجة عن التقاليد الدينية لتشبهها بالرجال ، أصبحت من ترتدي فستان النساء تخضع ، للتهكم و السخرية، و التنمر، حتى لو كان هذا الفستان محتشم، ففستان حبيبة طارق لم يكن ميني جيب أو حتى ميكروجيب .
و تمتلك المرأة ، تاريخا طويلا من الكفاح ، لكي تتمكن من إلغاء القوانين التي تحظر عليها إرتداء البنطلون خضوعا لتعاليم الكتاب المقدس الذي يحظر على المرأة المسيحية و اليهودية التشبه بالرجال لا سيما في الملبس . و كانت المرأة الفرنسية ، و معها المرأة الأمريكية ، في طليعة النساء اللاتي نجحن في إنتزاع حق المرأة في إرتداء البنطلون، رغم إعتراض رجال الدين المسيحي و الشخصيات المحافظة في أوروبا و أمريكا منذ القرن الثامن عشر ، لسببين أولهما : أن البنطلون ينتمي لملابس الرجال الأمر الذي سيشجع الرجال في المستقبل على التشبه بالنساء ، في حال السماح للمرأة بأرتداء البنطلون ، و ثانيهما : أن البنطلون يبرز مفاتن المرأة خلافا للفستان لذي يستر أكثر مفاتنها .
وفي واقع الأمر، فقد بدأ كفاح المرأة في سبيل إنتزاع حق إرتداء البنطلون، منذ أن صدر مرسوم العام 1800 من جانب مديرية أمن باريس ، خضوعا لضغوط الكنيسة ، و الذي أجبر أي إمرأة تريد إرتداء البنطلون ، سواء بسبب المشاركة في حفلات تنكرية، أو بسبب ممارسة عمل من الأعمال التي يمارسها الرجال، أو لأسباب تتعلق بالصحة ، على ضرورة التوجه لأقرب قسم شرطة تابع لمنزلها ، للحصول على التصريح اللازم ، لإرتداء البنطلون ، و إلا ستخضع للغرامة المالية المقررة، و التي كانت تزيد قيمتها في حال تكرار مخالفة المرسوم الأمني .
و مع مشاركة المرأة الأوروبية و الأمريكية في الثورة الصناعية بكثافة عالية ، بدأت المصانع تسمح للعاملات بارتداء البنطلون ، بشرط خلعه بعد الخروج من المصانع ، لكي لا يخضعن للمساءلة القانونية . و بمرور الوقت ، ازدادت أعداد النساء اللائي يرتدين البنطلون ، بعد أن قادت نساء شهيرات مسيرة كفاح المرأة من أجل السماح لها بإرتداء البنطلون في إطار السعي للمساواة بين الرجل و المرأة . و كانت الكاتبة الفرنسية الشهيرة ، جورج ساند ، أول من ارتدت البنطلون أكثر من مرة في نهايات القرن التاسع عشر ، في تحدي صارخ للمرسوم الأمني الفرنسي ، فيما شهدت الولايات المتحدة في نفس التوقيت ، قيام الناشطة الأمريكية ، أميليا بلومر، المدافعة عن حقوق المرأة و المساواة بين الجنسين ، بإرتداء البنطلون تحت الفستان ، لتثير بذلك ضجة كبيرة بين الأمريكيين ، لأنه لم يكن شيئا مألوفا في الولايات المتحدة في ذلك الوقت ، خشية أنتشار عدوى تشبه الرجال بالنساء ، لو سمح للنساء بأرتداء ملابس الرجال .
و في النصف الثاني من القرن العشرين، أنتشر البنطلون النسائي بشكل كبير ، خاصة بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية ، لكن ظل البنطلون محظورا مع ذلك على النساء في مؤسسات الدولة الفرنسية و الولايات المتحدة . و قد شهدت ستينات و سبعينات القرن الماضي أهم حادثتين في إطار كفاح المرأة لأنتزاع حقها في أرتداء البنطلون . الحادثة الاولى ، جرت سنة 1965 ، عندما ظهرت المذيعة الفرنسية ، نوال نوبلكور ، على شاشة التلفزيون الفرنسي و هي ترتدي فستانا أظهر ربكبتيها ، أحتجاجا على تعنت مسئولي التلفزيون الفرنسي ، الذين ظلوا يرفضون بشدة الحاحها المتكرر للظهور على الشاشة بالبنطلون فكان من الأعلامية الفرنسية المتمردة ، أن أرتدت الميني جيب ، الذي روجت له بيوت الأزياء الفرنسية الشهيرة بكثافة في منتصف الستينات مثل ، شانال ، و كارتييه، و ديور ، و جيفونشي . و كان من نتاج هذا التحدي أن قام أتحاد الإذاعة و التلفزيون الفرنسي ، بفصل نوال نوبلكور من عملها .
أما الحادثة الأشهر التي فتحت الباب للمرأة لأرتداء البنطلون في مؤسسات الدولة ، فكانت بطلتها النائبة في البرلمان الفرنسي ، ميشال اليو ماري ، التي تجرأت و هي تشغل منصب وزيرة الأشغال العامة، في 1973 ، بدخول البرلمان الفرنسي، و هي ترتدي البنطلون . و كانت صدمة حرس البرلمان الفرنسي كبيرة ، و هم يرون وزيرة ، تخالف القانون الفرنسي ، و تحاول دخول البرلمان بالبنطلون، فكان من رئيس الحرس أن أبلغها بأنه سيضطر ، مع الإحترام لمنصبها ، من منعها من دخول البرلمان ، فكان رد فعل ميشال أليو ماري، التي كانت تبلغ من العمر آنذاك 26 عاما ، أن هددت الحرس بخلع البنطلون في الحال ، فذهل رئيس حرس البرلمان من موقف النائبة الوزيرة ، و أضطر أن يسمح لها بدخول البرلمان، لتفتح الباب للموظفات بالذهاب لمقار أعمالهن بالبنطلون .
و قد كان لي موقف طريف مع ، ميشال أليو ماري، في مقر وزارة الدفاع الفرنسية بباريس ، عندما كنت مديرا للمكتب الصحفي لوكالة أنباء الشرق الأوسط بفرنسا . و أثناء أستعدادي لتغطية زيارة قام بها لباريس وزير الدفاع المصري آنذاك و كان يشغل المنصب المهيب ، المشير حسين طنطاوي ، تلبية لدعوة من نظيرته الفرنسية ميشال أليو ماري ، التي كانت تشغل في العام ، 2006 ، منصب وزيرة الدفاع الفرنسية ، فوجئت ، بأليو ماري ، تقترب مني ، لتبلغني قبل وصول المشير حسين طنطاوي، بأن الحكومة الفرنسية قررت تنظيم إستقبال حافل للمشير طنطاوي ، تقديرا لمصر، و لقواتها المسلحة ، و ذلك بتخصيص موكب مهيب على شرفه بالخيل ، مصحوبا بموسيقات عسكرية ، في مراسم أستقبال تتشابه في عظمتها مع زيارات رؤساء الجمهورية . و قد بادرت بنشر تصريحاتها ، لكني وجهت لها سؤالا يتعلق ببنطالونها قائلا لها : معاليكي لازلتي ترتدين البنطلون فضحكت و قالت لي، أنها لم تخلعه منذ أن دخلت به البرلمان سنة 1973 ، لأنه رمز مهم في إطار المساواة بين الرجل و المرأة .
أما الأمر المدهش في تاريخ البنطلون النسائي ، أن فرنسا لم تصدر قرارا بالغاء قانون سنة ، 1800 ، الذي يحظر على النساء ارتداء البنطلون إلا في سنة 2013 فقط ، رغم أن البنطلون أصبح الملبس الأكثر إنتشارا بين النساء في فرنسا و العالم منذ منتصف ستينات القرن الماضي سواء في الشوارع أو في المصالح الحكومية .
و نهاية فقط أثبتت الاحداث صحة مخاوف من كانوا يحاربون إرتداء المرأة للبنطلون ، فقد أدى ذلك الى ما كانوا يخشون منه ، و هو تقليد بعض الرجال للنساء في الملبس ، وحتى في طريقة قص الشعر، لدرجة أنه أصبح من الصعب في بعض الأحيان التمييز بين الشباب و الشابات . و لذلك بدأت بيوت اللأزياء العالمية إعادة الوقار للمرأة بالترويج للفستان . و وقوع إختيار بيت الأزياء الفرنسي الشهير ، "كارتييه " على النجمة المصرية ، ياسمين صبري ، للترويج لآحدث صيحات الموضة في مجال تصميم الفساتين خير دليل على ذلك.