لم أكن يوماً من مناصري الرئيس الراحل حسني مبارك ولم أمنحه صوتي الانتخابي طيلة حياتي وكنت من الطامحين للتغيير ودخول دماء جديدة بأفكار ورؤىً مختلفة للحياة السياسية الراكدة في العشر سنوات الأخيرة من حُكمه، تلك السنوات التي كان لها الأثر الأكبر على تدني مستوى التعليم والصحة والخدمات، وتردي الأوضاع الاجتماعية، فمن ينسى طوابير الخبز وأسطوانات البوتاجاز وارتفاع مستوى الفقر والبطالة واللجوء للهجرة غير الشرعية والمآسي التي كان يلاقيها الشعب - ليل نهار - حتى كان منتهى غاية الفرد أن يحصل على عقد عمل في الخارج سيما إن كان في إحدى دول الخليج النفطية…
وقد كنت من هؤلاء الذين تسنى لهم الحصول على فرصة عمل في إحدى دول الخليج عام 2006 حين تركت مصر على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية لهذا البلد، وفي حلقي غصة شديدة من تركي وطني للعمل ببلد آخر ليس لسبب وقتها، إلا للتفاوت الكبير بين مستوى الدخل بين عملي في مصر وتلك الفرصة آنذاك…
ومنذ صعودي لسلم الطائرة وكانت أنشودة الموسيقار الكبير عمار الشريعي الخالدة (الحدود) حاضرة، تلك الأغنية التي غنتها فرقة (الأصدقاء) التي كان قد كونها الشريعي من المطربين علاء عبد الخالق ومنى عبد الغني وحنان في بداية مشوارهم الفني، وكانت كلماتها التي كتبها المبدع عمر بطيشة تتردد في أذنيّ :
واحنا فايتين علي الحدود، مستمرين فى الصعود… اختفى النيل الجميل من تحتنا والمدن والريف وأول عمرنا
وابتدى شئ ينجرح جوه الوجود و ابتدينا أسئلة ملهاش ردود…ميلنا ع الشباك نخبى دمعة فرت مننا
مر الوقت وانشغلت في العمل محاولاً التعايش مع تلك الحياة الجديدة، ولكن الذي حدث بعد ذلك كان غريباً حيث كنا نقضي بعض الأوقات كزملاء من جنسيات عربية مختلفة في مناقشات عامة وأحاديث حول هموم الحياة وبعض القضايا السياسية التي كانت تواكب الأحداث حينها عندما تطاول أحدهم على الرئيس مبارك أمامي بطريقة غير لائقة، فتحولت حينها لشخص آخر، وكدت أن أفتك به وهو يحاول الهرب من بطشي مذعوراً من ردة فعلي العنيفة، وقد حاول باقي الزملاء احتواء الموقف دون جدوى وهم يستغربون من سلوكي هذا تجاه ذلك الشخص الذي أساء للرئيس مبارك حيث إنهم كانوا يعرفون موقفي الغير داعم لنظامه السياسي حينها، لكن تصرفي تجاه هذا التجاوز كان كما لو أنني كنت أدافع عن والدي، فلم أطق أن يتحدث أحد من جنسية أخرى بهذا الشكل أمامي عن رئيس بلدي الذي هو بمثابة رمز له وأنا خارج مصر، أنا لا أعني انتقاد السياسات أو معارضتها وإنما أعني الإساءة الشخصية التي لم أتحملها حينها، وأحسست بأن ذلك التجاوز إنما هو في حق شعب مصر كله، فكان ردي هكذا
وعندما هدأت العاصفة واعتذر المسيء كما يجب، ما كان مني إلا أن قلت بعض كلمات أخرى من نفس الأغنية (الحدود): مصر إنتى حته منى ...مش مجرد اسم وطنى
دائماً ما أتذكر هذا الموقف عندما أطالع منشوراً لأحد هؤلاء المعارضين المقيمين بالخارج وبه من الأباطيل والضلال والرخص ما به تجاه وطنه وقيادته التي لا تألو جهداً في الإعلاء من شأنه بين الأمم والمحافظة على مكانته العالية
ولا أجد مبرراً لهؤلاء الذين يقضون حياتهم في تلك الغربة خارج مصر غارقين في ذلك الوحل المهين الذي اختاروا الغوص فيه بحقدهم وكراهيتهم للإدارة المصرية الحالية، حيث تحول هذا الحقد إلى حزن على كل إنجاز يتم على الأرض (وما أكثر الإنجازات)، وفرح بالنوازل التي قد تصيبنا من بعض حوادث القطارات أو غيرها من أي مكروه، بل إنهم وضعوا عداداً للأيام المتبقية على الملء الثاني للسد الحبشي، متمنين أن يحدث وأن تتفاقم الأزمة - لا قدر الله - لكن الله غالب على أمره، ولن ينالوا ما يتمنونه أبداً، وسيأتي يوم يتذكر فيه الجميع تلك الأيام ومدى خسة هذه الشرذمة التي لا تعرف معنى الوطن الذي لو نادى على أبنائه فلا بد لهم أن يلبوا النداء…
ويبقى الوطن.