عن محاولات استنساخ النموذج الغربي في مساعي التحديث تنقلنا الروائية المبدعة "الدكتورة رضوى عاشور" في روايتها البديعة "قطعة من أوروبا" نقلةً هامة من المؤثرات الغربية ثقافياً و مُجتمعياً و ما أسفرت عنه من تبعية سياسية و اقتصادية إلى الجانب الآخر المُتمثِل فى التأثير المادى من خلال إقامة مدن جديدة على نمط المدن الغربية لتتوارى الرؤية الإسلامية في العمارة و البناء بكل ما فيها من روعة و إبداع - لأنه يجب على من يتطرق لدراسة أوضاع عالمنا العربي و الإسلامي الراهنة أن يعود إلي هناك حيث "درس التاريخ" منذ ضياع الأندلس و سقوط المنطقة العربية فيما بعد – وهكذا فعلت الكاتبة المبدعة عندما نشرت روايتها المؤلمة "ثلاثية غرناطة" من قبل و كيف أن داء الفرقة و التشرذُم هو ما يؤدي إلى كارثة ضياع الأوطان و انهيارها في نهاية المطاف، و مع هذا لم يتعلم العرب الدرس من مآسي الماضي، و باتوا يعيشون الآن أجواء الأندلس الثانية...و هكذا من ضياع إلى ضياع...!؟!.
اعتمدت "الدكتورة رضوى" أسلوباً جديداً في السرد الروائي يمزج بين وقائع التاريخ و الرؤى الأدبية – فقدمت رؤيتها على لسان بطل الرواية الذي قام "بدور الناظر" أو "الرائي" – الذي يروي أحداثها ووقائعها من خلال المشاهدة أو عبر ما وعته الذاكرة و اختزلته من حكايات، وما قدمته الوثائق من حقائق لتسجيل حركة التاريخ و ما اشتملت عليه من أحداث منذ بداية احتكاك العرب و المسلمين بالأوربيين في الربع الأخير من القرن الثامن عشر و حتي الآن. لتكشف عن حالة التردي و الاختراق التي عرفتها المنطقة العربية – و مصر في القلب منها – منذ قدوم نابليون بحملته إليها في ظل ضعف و أُفول نجم الإمبراطورية العثمانية، بما أغرى القوى الأوروبية الصاعدة و المتصارعة عليها بهدف إخضاع المنطقة لهيمنتها و احتلالها...!؟!.
مع مجئ حملة "نابليون بونابرت" إلى مصر يسبقه إليها حلمه بتكوين امبراطورية الشرق الذي فشل جرَّاء المقاومة الشعبية في الداخل و الحصار الإنجليزي من الخارج. ليأتي رد الفعل متمثلاً في مشروع "محمد علي" كمغامر قادم من ربوع السلطنة العثمانية لمواجهة اضطراب الأوضاع في أراضي المحروسة بعد انكسار الفرنسيين – و لم يكُن مشروع الباشا إلا "مشروعاً معاكساً" لما كان يحلم به نابليون – لأن أهدافه كانت تتعلق بمحاولات تحديث الدولة العثمانية، و دفع دماء جديدة في شرايينها المتيبسة بفعل الانسداد و الجمود – و أيضاً لأنه استلهم "النموذج الغربي" فاستعان بخبرات الفرنسيين في هذا المجال – و ما أن أصبح يمثل خطراً حتى تحالفت الدول الأوروبية ضده – لا سيما إنجلترا و روسيا – و تخلي فرنسا بدورها عنه بعد أن أقلقها طموحه الطاغي، فتركته لمصيره يواجه ما لاقاه نظيرهُ على الضفة الأُخرى من المتوسط "نابليون" الذي مات وحيداً في جزيرةٍ نائية...!؟!.
على نفس المنوال – و تكرار ذات الأخطاء – لم يستفد حفيد الباشا "الخديوي إسماعيل" من مأزق جده – فانتهى نهايته – بل زاد عنه أنه مات منفياً في إحدى عواصم الغرب التي استلهمها لإقامة مشروعه – فقد سعى "الخديوي إسماعيل" إلى جعل القاهرة على مثال باريس أي "قطعة من اوروبا" لكنه سقط في براثن الديون و ما أدت إليه من زيادة النفوذ الأجنبي و التدخُّل في شئون البلاد و إدارتها، لينتهي امرها بالاحتلال. و ما أن وقعت مصر في قبضة الاحتلال حتى قدمت إليها وفود من المغامرين الأوروبيين الباحثين عن الثروة و النفوذ و من بينهم عدد كبير من اليهود المؤيدين للمشروع الصهيوني – و تمت لهم جميعاً السيطرة على اقتصاد البلاد و نهب مواردها و إذلال مواطنيها...!؟!.
وعن "التأثير اليهودي" في مجرى الأحداث على جانبي المتوسط، سارت الكاتبة في مسارين متوازيين عبر تتبعها لنشوء عائلة "روتشيلد" في أوروبا، و نفوذها الواسع هناك في مجالات الثروة و السلطة...ومسار عائلة "يعقوب قطاوي" الجد الأكبر للعائلة الذي أتى من حلب إلى مصر في عهد "محمد على" حيث أوكل إليه العديد من المسئوليات في مجالات المال – لا سيما إشرافه علي مصلحة "صك النقود" و تنظيم الأسواق و جباية الضرائب و الجمارك و غيرها – و مع جيل الأبناء و الأحفاد، كبرت العائلة و تشعبت بالمصاهرة مع وجهاء اليهود الاخرين، لتتضاعف ثرواتهم بصورة ملحوظة مع مجئ الاحتلال الإنجليزي لمصر الذي زاد من نفوذهم. و سرعان ما بدأت عملية تفرنج النخبة اليهودية فتغيرت اللغة العربية و التركية من الآباء إلي اللغة الفرنسية مع الأبناء والأحفاد، و سار في ركابهم أبناء النخبة المصرية من ملاك الأراضي و الأعيان...و هنا تُشير الكاتبة إلي مدى ارتباط أبناء الجالية البهودية بالمشروع الصهيوني في فلسطين – وكيف أن إحدى حفيدات "قطاوي" باشا كانت ترأس الفرع المصري من التنظيم النسائي التابع للمنظمة الصهيونية العالمية، و تُشرِف على أنشطة إقامة الحفلات الخيرية لجمع التبرعات لصالح التنظيم في محلات "جروبي" و فندق "شبرد" الشهير...!؟!.
و ترصُد الدكتورة "رضوى عاشور" في روايتها الهامة – نشوء الحركة الوطنية في مصر وصولاً إلي قيام ثورة يوليو بعد سنوات قليلة من نكبة فلسطين، و وقوع القائمين عليها في أخطاء لا تُغتَفر، أدت إلي انهيار أحلام القومية العربية، فتلاشت شعارات الوحدة و الاستقلال – لتستمر المنطقة العربية في تبعيتها للغرب – تقول "الكاتبة" في شعور بالأسي... و في إيحاء شديد لما نحن فيه "...الواقع مريض...و المجتمع تتوارى فيه القيم...و الإنسان يختزل سعيه في الحياة إلي مجرد تلبية غرائزه لأحط الأشكال عنفاً و فجاجة..." هذا واقع لا نريد الاعتراف به – ومع ذلك لازلنا منشغلين بمشروع "قطعة من أوروبا" رغم أنه مشروع قديم و فشل و انتهينا... فأمريكا قطعة من أوروبا و تحمل بذرتها و تواصل فكرتها...و إسرائيل بنت بطنهما...و الثلاثة يفتحون النار علينا..." ...و علي الرغم من هذا فقد ذهب "الضباط الأحرار" الذين قادوا ثورة يوليو إلى أوروبا التي دمرتها الحرب، و تطلعوا إلى مبانيها الكبيرة التي تُشبِه "عُلَب الكبريت" المتطابقة – ليقوموا ببناء "مدينة نصر" و تعميم معمارها في ربوع البلاد – مُتجاهلين النظر و الاعتبار لما قام به البارون الأجنبي – عندما أقام "حي مصر الجديدة الراقي علي الطراز الإسلامي" والذي تعرض بدوره للإحلال و التشويه ببنايات الحديد و الأسمنت...!؟!.
"الرواية" تنكأ الجروح و تتناثر علي صفحاتها "أزمة الهوية" و ما تُثيره من إشكالات الانتماء و الدين و القومية و الأقليات و غيرها – بدايةً من الإشارة إلى تمثال "أبو الهول" الرابض علي حدود القاهرة ... وصولاً إلي مشروع "محمد علي" و حلم حفيده "إسماعيل" جعل مصر قطعة من أوروبا... ومن احتلال الإنجليز لها وقدوم شراذم الأجانب إليها و استقرارهم فيها...و من ثورة يوليو و فشل مشروعها القومي في تحقيق أهدافها – حول أحلام الوحدة و الاستقلال – لنصل إلي المشهد العربي الراهن بما فيه من تشرذُم و تمزُّق و اقتتال...ومن وجهة نظرنا فإن هذه الرواية كانت مقدمة لعدد من الأعمال الروائية الهامة تأتي في مقدمتها رواية "الحُب في زمن العولمة" للروائي الأردني (صبحي فحماوي) – التي رصدت ما آلت إليه المدن العربية من تلوث و انهيار – من جرَّاء المحاولات الفاشلة الرامية إلي جعلها "قطعة من أوروبا" متجاهلين روح هذه المدن و تقاليد شعوبها – وتراث مبدعيها علي امتداد تاريخها...!؟!.