قال الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إنه مع بداية خلافة الأمويين كانت الشام مركز المؤيدين لسياستهم، فقد توثقت الصلة بين أهل الشام وبين الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ورأوا فيه سياسيا وقائدا ماهرا، واختار الأمويون عاصمتهم في قلب الشام (دمشق)، وأولوا الشام ومدنها وأهلها اهتماما خاصا، وبالنسبة لمدينة القدس فقد تحكم عاملان كبيران في سياسة بني أمية نحوها, وهما: مكانة المدينة ومسجدها المبارك، ثم قربها من دمشق مركز الدولة الأموية وعاصمتها.
وأضاف جمعة عبر الفيسبوك: وكان معاوية قد بدأ يأخذ البيعة من الناس على الخلافة في بيت المقدس، ولعله أراد بأخذها هناك أن يؤكد شرعية هذه البيعة، حيث يأخذها في مكان طاهر مبارك، وسار على هذه الخطوة خليفتان آخران من بني أمية هما: الوليد بن عبد الملك وأخوه سليمان بن عبد الملك.
وأكمل: وإذا كان عبد الملك بن مروان وابنه الوليد قد منحا الحرم القدسي اهتمامًا خاصًا، وشيدا المسجدين المباركين: مسجد قبة الصخرة، والمسجد الأقصى الذي بناه عمر بن الخطاب قبلهما، حيث كان الإنشاء الحديث الأول للمسجد سنة 97هـ, وهو إنشاء يتناسب بلا شك مع المسجد ومكانته في الإسلام من جهة، ومع ما عرف عن الوليد بن عبد الملك من اهتمام بالمساجد والعناية الفائقة بها, ولم يبق الآن من عمارة الوليد شاهدا على ذلك إلا العقود القائمة على أعمدة من الرخام على يمين القبة الصغيرة عند المدخل ويسارها, وارتفاع تلك الأعمدة مع تيجانها خمسة أمتار, أما ارتفاع قمة العقد فيبلغ أكثر من ستة أمتار، وفوق كل ثلاثة عقود خمس فتحات، وكان طول الجدار من الشمال إلى الجنوب قرابة 51 مترا, فإذا افترضنا أن عرضه كان مثله -وليس بين أيدينا مصدر يحدد ذلك- فإن مساحة المسجد آنذاك كانت لا تقل عن 2500 متر مربع, وكان على جانب من الفخامة بحيث إن أبوابه صفحت بالذهب, [منارات الهدى في الأرض لعبد الله نجيب, ص48].
وتابع: أما سليمان بن عبد الملك فقد مكث زمنا أميرا على فلسطين، وكان يحب الجلوس تحت قبة السلسلة بأرض الحرم القدسي الشريف, ولم يكتف بأخذ البيعة من الناس على سطح صخرة بيت المقدس والناس من حوله, والمال الوفير وكتاب الدواوين إلى جانبه, بل كاد يتخذ مدينة القدس أو الرملة عاصمة لملكه -ولعله استحضر في ذلك صورة النبي الكريم سليمان بن داود عليهما السلام- ولكن يبدو أن سرعة موته (سنة 98هـ) قد حالت دون ذلك.
وقال جمعة إن وصف مدينة القدس في زمان بني أمية يكشف عن اهتمامهم بها وبأسوارها وبناياتها، فقد كان للقدس يومئذ سور, وكان على ذلك السور أربعة وثمانون برجا، وله ستة أبواب، ثلاثة منها فقط يدخل الناس منها ويخرجون: واحد غربي المدينة، والثاني شرقيها، والثالث في الشمال, وكان يؤم المدينة في اليوم الخامس عشر من شهر سبتمبر من كل سنة جماهير غفيرة من مختلف الأجناس والأديان بقصد التجارة, ويقضي هؤلاء فيها بضعة أيام, وكان فيها مسجد مربع الأضلاع, بني من حجارة وأعمدة ضخمة نقلت من الأطلال المجاورة, وهو يتسع لثلاثة آلاف من المصلين, وهو المسجد الذي بناه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه, وكان جبل الزيتون مغطى بأشجار العنب والزيتون, وكان سكان بيت المقدس يومئذ يأتون بالأخشاب التي يحتاجون إليها من أجل البناء والوقود؛ تنقل على الجمال من غابة كثيفة واقعة على بعد ثلاثة أميال من الخليل إلى الشمال.
واختتم الدكتور علي جمعة: قد استعمل الأمويون بعض ساكني القدس من غير المسلمين لخدمة المسجد (الحرم)، فكان منهم من جعل لكنس ما يصيب المسجد في المواسم والشتاء والصيف ولكنس المطاهر التي حول الجامع، كما كان منهم من يصنع الحصر للمسجد, وكذلك لكنس تلك الحصر, وكنس القناة التي يجري فيها الماء إلى الصهاريج, وكنس الصهاريج أيضا, ويروى أن بعض اليهود كانوا يتولون إضاءة مسجد بيت المقدس، فلما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة (سنة 99هـ) أخرجهم، ويبدو أن الخليفة العادل فعل ذلك مراعاة للعهد الذي أبرمه جده عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أهل القدس ألا يسمح لليهود بالإقامة فيها. [تاريخ القدس لعارف العارف, ص51 بتصرف]..هكذا كان الاهتمام بالقدس وبداية البناء المعماري بالمسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة وغيرهما في عصر الخلافة الراشدة ،وامتد ذلك إلى الدولة الأموية التي اعتنت بالقدس عناية كبيرة، ما زال جدران المسجد يشهد بجمالها وعبقها وأصالتها.