استكمل فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، حديثه عن «وسطيَّةِ الإسلامِ»، ومظاهرِها في تشـريعاتِ القرآنِ الكريمِ والسُّنَّةِ المطهَّرةِ، وذلك بعد أن استعرض مظهرَيْنِ لهذه التشريعاتِ؛ هما: «اليُسـرُ ورفعُ الحرج»، و«قِلَّةُ التكاليفِ»، مع تركِ مساحاتٍ شاسعةٍ بلا أحكامٍ ولا تشريعاتٍ؛ توسعةً وتيسيرًا على الناسِ في أمورِ دِينِهم ودُنياهم.
وخلال الحلقة الحادية عشر من برنامجه الرمضاني "الإمام الطيب" تحدَّث شيخ الأزهر عن أساسٍ آخرَ من أُسُسِ التشريع، هو: «مرونةُ النُّصوصِ» التي تستندُ إليها تشريعاتُ المسلمين، موضحا أنَّها ضَمِنَت لهذه التشريعاتِ سهولة الحركةِ، ومواكبة التغيُّر، وإثراء حياةِ الناسِ؛ ما جعَلَ منها «شريعةً إلهيةً»، صالحةً لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، وهو النعتُ الذي عُرفت به في أُمَّهاتِ كُتُبِ التراثِ في الأصولِ والفروعِ.
وأضاف فضيلته أن هذه الخاصَّةُ التي تفرَّدَت بها شريعةُ الإسلام عن سائرِ الشرائعِ والأنظمةِ -إنما هي انعكاسٌ لرسالةِ الإسلامِ وطبيعتِها؛ كبيانٍ أخير نهائي من اللهِ تعالى للناسِ، يتخطَّى حدودَ الزمانِ والمكانِ، مبينا أن هذه المسألةَ يتوقف ثبوتها على ثبوتِ محورَيْن تعتمد عليهما اعتمادَ النتيجةِ على مقدماتِها.. هذان المحوران هما: إثبات ختمِ النبوَّة المحمدية لما قبلها من النبوَّات والرسالات، والمحور الثاني هو: إثباتُ عالميةِ الرسالةِ المحمدية"، وعمومها لكلِّ الناس في كل زمانٍ ومكان، بغضِّ النظرِ عن إيمانهم – أو عدم إيمانهم بهذه الرسالة.
وأوضح الإمام الأكبر أن ختمُ النبوة المحمدية يَعني انقطاع النبوَّات والرسالات الإلهية من جانب، مع بقاء هذه النبوةِ مُمثَّلةً في شريعةٍ موجودةٍ باقيةٍ بينَ الناس كمصدرٍ إشعاعٍ دائم، يُميزون -على ضوئه- الحقَّ من الباطل، والخيرَ من الشر، والحُسنَ من القُبح، في العقيدة والسلوك والعمل، وبحيث يُشكِّلُ ختمُ النبوة المحمدية واستمرارُها أمرين مُتلازمين، أو وجهَيْن لعملةٍ واحدة، لا يتحقق أحدُهما إلَّا ويتحققُ معه الآخر.
وأوضح فضيلته أن المقصود باللزوم هنا اللزومَ الشرعي، بمعنى: أنك لو افترضت أن نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم – نبوةٌ خاتمة بمعنى أنها آخرُ النبوات ظهورًا، لكنَّها قد طُويت صفحتُها، وانتهت مهمتُها، ورُفعت أحكامُها وتشريعاتُها بانتقاله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى؛ فإنَّه يَلزَمُ على هذا الفرضِ أن تُصبح الإنسانيةُ بأسرِها عشراتِ الآلاف من السنين في ظلامٍ دامسٍ، وفي فوضى ضاربةٍ، وضلال مبين؛ بسبب غياب هدي السماء، وانقطاعِ اللُّطْف الإلهي، واستبداد قُوى الشَّر والظلام، وسوف يبطل – مع هذا الفرض أيضًا - معنى الحسابِ والثوابِ والعقابِ يومَ القيامة، كما سيبطلُ معنى الإيمان بالبعثِ والجنة والنار والصِّراط.. بل ويُصبح الإيمانُ بالله تعالى وملائكته وكُتُبِه ورُسُلِه لا طائلَ من ورائه، وكلُّ ذلك لسببٍ بسيطٍ هو: «التعلُّل بأن الله تعالى» لم يُرسِل إليهم رسولًا يُنذرهم ويُبشِّرهم، وهذا عبثٌ لا يَليقُ بالحكيم العليم الذي لا يتوقَّف لطفه أو كرمه أو رحمته بالخلق طرفةَ عين إلى أن يَرِثَ الله الأرض ومَن عليها.
وطرح فضيلته تساؤلا قد يثيره البعض متمثلا في القول بأننا إذا سلَّمنا أنَّ ختمَ النبوَّة يستلزمُ شرعًا استمرارَها، ولكن لماذا يستلزم أن تكون عامَّةً للناس جميعًا؟ أفلا يجوزُ أن تســـــتمر النبـــــــــوة خاصَّةً بقـــــــــوم -كالعرب مثلًا- دونَ أقوام آخرين؟!، وأجاب فضيلته بأن هذا الاعتراض مصيرُه هو مصير الاعتراض السابق؛ فمع هذا الافتراض سيقتصرُ الهديُ الإلهي على أمَّةٍ، وستبقى بقيةُ الأممِ ضائعةً محرومةً لا تعرفُ خيرًا من شَرٍّ، ومن أين لها ذلك وهي لم يُبعَث فيها بشيرٌ أو نذير؟ وسيَلزم عليه كلُّ ما لزم من قبلُ من الاستحالات الشرعية والعقلية.
وبين فضيلته أنه إذا ثبت أنَّ نبوَّةَ محمد - صلى الله عليه وسلم - نبوةٌ خاتمة ونبوةٌ عامةٌ للخلق جميعًا، ثبت بالضرورةِ أنَّ الشريعة التي تتضمَّنها هذه النبوةُ شريعةٌ عامةٌ ودائمةٌ، وأنها وارثةٌ لكلِّ ما سبقها من الشرائع والرسالات الإلهيَّة، ومُستبطِنة كُلَّ ما استبطنَتْه الشرائع من ثوابت العقائد وكُبريات القيم والأخلاق، كما يثبت - في الوقت نفسه - أنها شريعةٌ غيرُ قابلةٍ للنسخ؛ لأنه لا دِينَ يظهر بعدَها فينسخَها كليًّا أو جزئيًّا.
وأضاف شيخ الأزهر أن القرآن الكريم أكد حقيقةَ "ختم النبوَّة" تأكيدًا جازمًا في قولِه تعالى "مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا"، وكذلك حقيقة "عمومُ رسالتِه" ﷺ للناسِ جميعًا، قرَّرها القرآنُ الكريمُ في قولِه تعالى "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون"، كما أنَّ السُّنَّةَ القطعيَّةَ قرَّرت هاتينِ الحقيقتينِ وأكَّدتهما في قولِه ﷺ: «وأُرسِلْتُ إلى الخَلقِ كافَّةً، وخُتِم بيَ النَّبيُّونَ»، وقولِه: «وكانَ النبيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً»، وقولِه: «وإنَّه لا نَبِيَّ بَعْدِي، وسَيَكونُ خُلَفاءُ فَيَكْثُرُونَ».
واختتم فضيلة الإمام الأكبر مشيرا إلى أن الذي لا يتنبَّهُ له كثيرون أنَّ ما ورد في شأن هاتين الحقيقتين من آياتٍ وأحاديث، كلُّه من قَبِيلِ المعجزاتِ التي تتحدَّثُ عن غُيوبٍ مستقبليَّةٍ، لم تَخرُجْ أحداثُ الواقعِ والتاريخِ -قَيْدَ أُنمُلةٍ- عمَّا أخبر به القرآن والنبيُّ الكريمُ في هذا الشأنِ، فلقد مَرَّ على ظهورِه ﷺ قُرابةُ ألفٍ وخَمسِمِائةِ عامٍ لم يُسَجِّلِ التاريخُ فيها ظهورَ شخصٍ جاء برسالةٍ إلهيَّةٍ، ونجحَ في أن يحملَ عليها الناسَ، أو استطاعَ أن يُكَوِّن أُمَّةً تُصَدِّقُه وتُجمِعُ على تصديقِ نبوَّتِه الجديدة، ويُكذِّب بذلك قولَه تعالى "وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّين"، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإنَّه لا نَبِيَّ بَعْدِي»، فهل بعدَ شهادةِ التاريخِ وشهادةِ الواقعِ من شهادةٍ على صدقِ هذا النبي الكريم!، مضيفا أنَّه -ﷺ- لو كان يشكُّ أو يرتابُ لحظةً في أنَّ اللهَ تعالى كلَّفه بإبلاغ هاتين الحقيقتين إلى الناس، أكان يجرُؤُ على إذاعتِها، وتسجيلِها في كتابٍ يعلمُ أنَّه سيكون الحجةَ الوحيدةَ للمسلمين على مَن يُنكِرُ عليهم دِينَهم ورسالةَ نبيِّهم؟!.