الدكتور محمد داود لـ«صدى البلد»:
- لا يكتمل إسلام المرء بغير صيام رمضان
- للصيام حِكَمٌ وأسرار ومقاصد سامية ويعلم الصبر ويهذب النفس
- الصوم يخلِّص الجسم من الالتهابات والميكروبات الضارة ويقوِّى الذاكرة
نعيش أيامًا مباركةً في شهر عظيم مُبارك ألا وهو رمضان، شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، شهر العتق والغفران، والصدقات والإحسان، تفتح فيه أبواب الجنات، وتضاعف فيه الحسنات، وتقال فيه العثرات، وتجاب فيه الدعوات، وترفع فيه الدرجات، وتغفر فيه السيئات، شهر يجود الله فيه سبحانه على عباده بأنواع الكرامات، ويجزل فيه لأوليائه العطايات، شهر جعل الله صيامه أحد أركان الإسلام.
مزايا وعطايا كثيرة يحملها لنا شهر رمضان.. «صدى البلد» التقى الأستاذ الدكتور مُحمَّد مُحمَّد إمام داود، المفكر الإسلامي، ليخبرنا بنفحات الشهر المبارك، مؤكدًا أن صيام رمضان يهذب النفس وحماية لأمن المجتمع ومنعًا لسبل الجريمة.
وأضاف الدكتور محمد داود لـ«صدى البلد» أن للصوم الفريضة العظيمة حِكَمًا وأسرارًا ومقاصد سامية وفوائد صحية جَمَّة، لافتًا إلى أن رمضان شهر الجود والعطاء والتكافل الاجتماعي.. وإلى نص الحوار
بداية.. ما معنى كلمة رمضان ولماذا سمي بهذا الاسم؟
وردت كلمة «رمضان» فى القرآن الكريم مرة واحدة للدلالة على الشهر المعروف بشهر الصوم، وذلك فى قوله تعالى: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ»(سورة البقرة الآية 185).
ورمضان فى اللغة من الرمض أى: شدة حر الشمس على الرمل وغيره، يقال: أرمضته فرَمِضَ أى: أحرقته الرمضاء وهى شدة حر الشمس، وأرض رَمِضَة ورمضت الغنم رعت فى الرمضاء «أي في شدة الحر» فقرحت أكبادها «أى أصابـها القرح»، وفلان يترمض الظباء أى: يتبعها فى الرمضاء، ورمضان اسم شهر الصوم وهو من أشهر الشهور العربية.
وعن سبب تسميته يقول ابن دريد: إنـهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التى هى فيها، فوافق رمضان أيام رمض الحر وشدته فسمى به، وقال الفراء: وشهر رمضان مأخوذ من رمض الصائم يرمض إذا حر جوفه من شدة العطش.
اذكر لنا مقاصد الإسلام من تشريع الصوم؟
الصيام ركنٌ من أركان الإسلام الخمسة، فلا يكتمل للمرء إسلامه بغير صيام رمضان، ولهذه الفريضة العظيمة حِكَمٌ وأسرار ومقاصد سامية، منها ما يختص بصياغة الشخصية الفردية وتقويتها، ومنها ما يعم نفعه المجتمع الإسلامى والأمة الإسلامية كلها، فالمقاصد التى تتوجه إلى بناء شخصية الفرد، هي: الصبر وتهذيب النفس وتحرير الإرادة، والصيام جُنَّة أى وقاية من عذاب الله فى الآخرة، ووقاية من كل المكاره والشرور فى الدنيا، والصيام صِحَّة، والصيام غفران للذنوب وتجديد للإيمان.
والمقاصد الاجتماعية العامة من الصيام، هي: شهر الجود والعطاء والتكافل الاجتماعي، والصيام مظهر للالتزام بالنظام الاجتماعي، والصوم وقاية من الجريمة وحماية لأمن المجتمع، وتقوية لروح الأمة وسمو بأخلاقها.
وبيَّن لنا النبى الكريم -صلى الله عليه وسلم- مقاصد الصيام وحكمه فى هذا الحديث الجامع، الذي روى البيهقى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال وقد حضر رمضان: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ جَعَلَ اللَّهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ، وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ، وَشَهْرٌ يُزَادُ فِي رِزْقِ الْمُؤْمِنِ فِيهِ، مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ لَهُ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مثل أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ كُلُّنَا نَجِدُ مَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ؟ قَال: "يُعْطِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى مَذْقَةِ لَبَنٍ أَوْ تَمْرَةٍ أَوْ شَرْبَةِ مَاءٍ
وَمَنْ أَشْبَعَ صَائِمًا سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لا يَظْمَأُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ، مَنْ خَفَّفَ فِيهِ عَنْ مَمْلُوكِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَأَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ، وَاسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: خَصْلَتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَانِ لا غِنَاءَ بِكُمْ عَنْهُمَا، فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ : فَشَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَتَسْتَغْفِرُونَهُ، وَأَمَّا اللَّتَانِ لا غِنَاءَ بِكُمْ عَنْهُمَا، فَتَسْأَلُونَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَتَعُوذُونَ بِهِ مِنَ النَّارِ» في هذا الحديث الجامع تتجلى مقاصد الصيام وعظمته وعمق آثاره فى بناء شخصية الفرد وفى تكوين المجتمع الإسلامى المتكافل.
هل للصوم فوائد صحية؟
للصيام فوائد صحية جَمَّة، وقد أصبح من المقرر فى الطب الحديث أن الصوم يخلِّص الجسم من الالتهابات والميكروبات الضارة، ويريح الأعضاء، ويقوِّى الذاكرة، وهو علاج ناجح للكثير من الأمراض وبخاصة أمراض الجهاز الهضمى والكبد والسكر والأمراض الباطنية عمومًا.
كيف يهذب الصوم النفس البشرية؟
الصيام صبر، والجهاد صبر، ومن هنا اقترن الجهاد بهذا الشهر الكريم، كذلك فإن فى صيام رمضان حماية لأمن المجتمع ومنعًا لسبل الجريمة؛ فإن أكثر الجرائم تنتج عن الانسياق وراء الشهوات والأهواء، والصائم يحبس نفسه عن الشهوات، ويكف لسانه وأعضاءه وقلبه، وإذا كان الصائم رقيبًا على نفسه، وكانت الشياطين مسلسلة فمن أين تأتى الجريمة؟! وإلى هذا أشار النبى -صلى الله عليه وسلم- فى قوله: «إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفِّدت الشياطين، وغُلِّقت أبواب النار، وفُتِّحت أبواب الجنة، ونادى مُنَادٍ: يا باغى الخير أَقبِلْ، ويا باغى الشرِّ أَقْصِرْ».
ونحن نرى مظاهر عمل الخير فى كثرة البذل والإنفاق فى رمضان، والكفّ عن الشر فى هبوط نسبة الجرائم إلى أدنى مستوياتها فى شهر رمضان فى جميع البلاد الإسلامية، وعلى هذه الأسس الإيمانية المتينة يجدد شهر رمضان روح الأمَّ، ويُقوِّى همتها، ويُحفزها إلى الخير والعمل الصالح، والعلم والعبادة، والجهاد، وتأليف القلوب، وتماسك بناء المجتمع، ووقاية المجتمع من المفاسد والشرور.
حدد لنا القيّم المهمة التي يحملها شهر رمضان؟
يحمل شهر رمضان قيمًا تشتد إليها حاجة الأمة فى ظروفها المعاصرة: القيمة الأولى: الوحدة الشاملة للأمة التى يحدثها الصوم بين المسلمين، فليس لقوم أن يصوموا شهرًا ولآخرين أن يصوموا شهرًا آخر، بل المسلمون جميعًا يصومون معًا شهرًا واحدًا هو شهر رمضان، وفى هذا درس عظيم فى جمع الشمل ونبذ التفرق والتمزق الذى تعاني منه أمتنا، كما يدعونا هذا الدرس إلى أن نعمل بروح الفريق بعيدًا عن الفردية والأنانية التى تضعفنا وتفرقنا.
والقيمة الثانية: قيمة الإرادة وقوة العزيمة، فالله تعالى لم يشرع الصيام إيلامًا للإنسان ولا تعذيبًا له، ولكن شرعه ليكون وسيلة لتهذيب النفس وتربية القدرة على السيطرة على الأهواء والشهوات، فكم من الناس من يشتهى ولا يصبر؟ وكم من الناس من يغضب ولا يملك نفسه عند الغضب؟، ووكم من الناس من ينفلت فى الآثام دون إنابة؟! وكم من الناس يفقد عمره بالتسويف والتمنى؟! لو أن لهؤلاء عزم قوى وإرادة صلبة لصانوا عهد الطاعة وما سقطوا فى شراك الشيطان وفساده، والصوم يربى فينا هذا العزم وتلك الإرادة.
القيمة الثالثة: قيمة الصبر والتحمل فلا نضعف ولا ننهار أمام الشدائد، والقيمة الرابعة: قيمة اقتصادية فى تحويل الأمة من موقع الاستهلاك والإسراف إلى موقع الاعتدال، والقيمة الخامسة: قيمة خلقية ضد الفساد فالصيام تطهر من الذنوب وإصلاح للنفوس وتربية للسلوك.
اذكر لنا حال النبى فى رمضان؟
حال النبى -صلى الله عليه وسلم- أسوة وقدوة للأمة فى رمضان وفى غيره من الشهور، ولقد جعل الله من أسباب الفلاح الاقتداء بهديه، والمسلم يجتهد فى أن يكون صومه كصوم الحبيب المصطفى، ولا يتأتى ذلك إلا بالتعرف على حال النبى -صلى الله عليه وسلم- فى رمضان، ومن فضل الله علينا أن كتب السنة قد سجلت حاله كى ننتفع به.
كرمه وجوده:
فى الصحيحين عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس بالخير من الريح المرسلة، ولقد كان الكرم من سجايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فطرة وتربية إلهية وتوجيهًا قرآنيًّا، فكان -صلى الله عليه وسلم- يحض على الكرم ويشجع، قال -صلى الله عليه وسلم-: «السخى قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة قريب من النار»... رواه الترمذى عن أبى هريرة.
ولم يكن جود النبى -صلى الله عليه وسلم- لكسب محمدة أو اتقاء منقصة، ولم يكن للمباهاة أو لاجتذاب المادحين، بل كان فى سبيل الله وابتغاء مرضاة الله، كما كان كرمه -صلى الله عليه وسلم- فى حماية الدين وفي مؤازرة الدعوة، كما كان كرمه وجوده -صلى الله عليه وسلم- فى الإنفاق على الفقراء من المسلمين وفى رعاية اليتامى والأيامى، كما كان كرمه وجوده -صلى الله عليه وسلم- إيثارًا على نفسه وأهله، فما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن شىء قط إلا أعطاه، وما سئل شيئًا قط فقال لا.
وفى سنن أبى داود والبيهقى عن عبد الله الهوزنى قال: لقيت بلالًا فقلت: يا بلال حدثنى كيف كانت نفقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: ما كان له شيء، وكنت أنا الذي أَلِى ذلك منه، أى أنا المتولى أمر ماله، منذ بعثه الله تعالى حتى توفى. وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه الإنسان مسلمًا فرآه عاريًا يأمرني فأنطلق فاستقرض فأشترى له البردة فأكسوه وأطعمه».
وروى مسلم عن أنس -رضي الله عنه- قال: «ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا إلا أعطاه، فجاء رجل – وهو صفوان بن أمية – فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدًا يعطى عطاءً من لا يخاف الفقر».
وبشر -صلى الله عليه وسلم- من اقتدى به فى الكرم والجود، قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا».
فطره:
عن أنس -رضي الله عنه- قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُفطر على رطبات قبل أن يصلى، فإن لم تكن فعلى تمرات، فإن لم تكن حسا حسوات من ماء». رواه أبو داود والحاكم فى صحيحه. ومعنى حسا: أي شرب.
وثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو عند فطره بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى»، وكان -صلى الله عليه وسلم- يعجل الفطر واستحبه لأمته، فعن سهل بن سعد أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تزال أمتى بخير ما عجلوا الفطر» رواه البخاري ومسلم.
سحوره:
كان النبى -صلى الله عليه وسلم- يؤخر السحور ولا يتركه، وإنما كان يتسحر ولو على شربة ماء، وسمى السحور بالغداء المبارك، ودعا أمته إلى التأسي به فى السحور، قال -صلى الله عليه وسلم-: «تسحروا فإن فى السحور بركة» رواه البخارى، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالسحور فإنه هو الغداء المبارك» رواه النسائي، ووضح العلماء سبب بركة السحور بأنه يقوي الصائم وينشطه ويهون عليه الصيام.