لا شك أنه منذأحداث ثورات الربيع العربي والتي عصفت بمنطقة الشرق الأوسط، والمشهد السياسي فيالمنطقة العربية راح يأخذ مسارًا يتسم تارة بالهدوء وبالضوضاء تارة أخرى، ما بينمطالب لقوميات وأقليات سعت لنيل حريتها أو لشعوب طالما آثرت أن تحصل على حرياتكثيرًا ما سلبت منها في ظل الانظمة التي سادت أو تلك التي قُدِّرَ لها أن تتغيرلاسيما في المنطقة العربية والتي تزخر بأطماع توسعية لبعض دول المنطقة.
والمتتبعللأحداث في المنطقة يلاحظ أنها تزخر بنوع من الصراع بين ثلاثة مشروعات تتناحر فيمابينها بين مشروع رجعي يرتدي عباءة دينية قُدِّرَ له أن يفشل، وبين مشروع قومي اتسماتباعه في يومنا هذا بالخطابات الرنانة دون الفكرة التي ربما يتكسب منها جُلُّالمنتمين إليها، وبين مشروع ثالث يهتم بالضرورة بالحقوق والمصلحة المشتركة بين دولالمنطقة ونبذ العنف من أجل بناء دولة وطنية تؤمن بالتشاركية والتوافق بين جميعأركان المنطقة.
ولعل الحالتانالمصرية والكردية اللتان ظهرتا في الفترة الأخيرة ونتيجة تصديهما للفكر المتشدد منقِبل التيارات الدينية المتطرفة وخاصة الاخوان المسلمون وكل تفرعاتها وبمختلفمسمياتها، والتي كانت تسعى لنشر الفوضى تحت مسمى الدين معتمدةً على تراث الخلافةالعثمانية، وحتى أنها راحت تُؤتَمر مباشرة من أردوغان بعد أن وسمته بالخليفة. وقدنجح الطرفين أي المصري والكردي في التصدي لهذا المشروع الذي اتخذ له مسارين للهيمنةعلى المنطقة برمتها. ففي سوريا استطاع الكرد إفشال مخططات الاخوان المسلمينوزعيمهم أردوغان في تنفيذ أجنداته، ونفس الأمر حصل في مصر بعد ثورة يونيو 2013التي قطعت الطريق عليهم.
ومن القومياتالتي ينبغي أن تكون داعمة للمنطقة العربية هي القومية الوطنية الكردية. فالشعبالكردي في المنطقة العربية والشرق الأوسط جزء من أمة عظيمة هي (الأمة الكردية)،وهي مجزأة ومغبونة تاريخيًا وسياسيًا. حيث يبلغ عدد نفوس هذه الأمة ما يقارب 40مليون نسمة، موزعة بين خمسة دول، وهو شعب تواق للحرية والحياة الحرة القائمة علىأساس حقوقه الثابتة في الديانات والمواثيق الدولية، وحقوق المواطنة، والتطلع نحو
المستقبل المشرق في تحقيق أمانيه القومية الثابتة والمشروعة. وهو شعب عاشق للجباللأنها ملاذه الآمن من سلاح العنصرية ومن اضطهاد الفكر الشوفيني الضيق، وكذلك منممارسات مختلف الأنظمة التي تعاقبت على أرض الشرائع في المناطق التي ينتشر فيهاأبناء هذه الأمة.
ولا شك أن هذهالخطوة تعد من الخطوات المهمة الأساسية لفهم الآخر، وبناء السلام والتعايش الأخويبين كل القوميات ومكونات الطيف العربي - الكردي قوميًا ودينيًا وفكريًا، وفق أسسالتسامح واحترام الآخر، وبصورة متساوية ومتكافئة. والحوار المطلوب هو حوار الأخوةالقائم على حسن النوايا، لأن الجميع وبخاصة شعب كردستان تعرض لأبشع صور الاضطهاد.
ومما يذكر فيهذا الشأن محاولة قوى إعلامية ظلامية موجهة لاستغلال هذا الخلاف والترويج بأنالكرد انفصاليون وعملاء لليهود أو أنهم ألعوبة بيد القوى الغربية والكثير منالاتهامات الأخرى. حتى انطلقت العديد من الأقلام والتي تتخوف من التحولاتالديمقراطية، ومن نيل الكرد لحقوقهم بعد نضالٍ وتضحيات طويلة، وذلك بنشر العديد منالاخبار الملفقة وغير الصحيحة وخاصة بتعاملهم مع أطراف معادية. أو بحجة التجسس على
بعض دور الجوار، وغيرها من التهم التي لا صحة لها ولا دليل عليها.
لا شك أن مصدرهذه الاتهامات ودوافعها معلومة للجميع، والتي تتلقف هذه الأخبار وتوظفها ضد الإخوةالكرد أينما كانوا، في محاولة منهم لتشويه صورتهم إقليميًا ودوليًا، وفي هذا الشأنيقع على عاتق المثقفين والاكاديميين وضع ورقة وطرحها أجل البدء بمرحلة جديدة منالعلاقات المصرية والعربية -الكردية على ضوء المستجدات الحاصلة في المنطقة.
هذه التصرفات غير المسؤولة، تسيء إلى الأخوّةالعربية–الكردية، مما يوجب التصدي لها. وهنا يقع على المثقفين العرب والكردمسؤولية أخلاقية وإنسانية في فضح هذه الادعاءات الزائفة، وعدم السماح مطلقًا لكلما يسيء إلى الأخوة العربية–الكردية. لأن الوحدة الوطنية وهذه الأخوة هي من الخطوطالحمر التي لا يجوز بتاتًا المساس بها.
ونظرًا للتاريخالمشترك بين الشعبين وكذلك الثقافة المتداخلة مع بعضها البعض لا يمكن لأحد أن يضحيبهذه العلاقات والروابط التاريخية والمصيرية بينهما، وليس من الحكمة التضحية بهذهالروابط الأخوية التاريخية. فالكرد هم جزء من الأمة الكردية المجزأة والمغبونةتاريخيًا. وكانت الحركة التحررية الكردية تناضل من أجل إثبات الهوية للشعب الكردي،والدفاع عن الوجود ضد حملات الإبادة. ولذلك ينبغي على العرب أن يكونوا ويتفهموا الكردفي خياراتهم ومعهم في تقرير نوع الشراكة في الوطن وإلى جانب حقهم في تأسيس الصيغةالفيدرالية للحكم كضمان لوحدة الجغرافيا الوطنية للدول التي يعيشون فيها.
لأنه ثمة تاريخمشترك لا يمكن القفز عليه ولا يمكن نسيان الدماء التي سالت من العرب والكرد فيحروب ومعارك مشتركة، ولا يمكن نسيان دور العلماء الكرد، في مختلف العلوم وخاصة فيعلم اللغة العربية، والعلوم الشرعية، والثقافات والعلوم الأخرى. إن مستقبلالعلاقات بين أكبر شريكين في وطن واحد، وهما (الكرد والعرب)، وهذا ما يُحتم علىمصر لما لها من ريادة عربية مسؤوليات كبيرة في احترام وتفهم ودعم الحقوق المشروعةللكرد، وكذلك الاعتراف بحقوق جميع الأقليات الأخرى في المنطقة، وتحث المعنيين علىتطبيق القانون بصورة عادلة في الدول التي يعيش فيها الكرد بما يحقق التكاملوالكرامة والحرية.
وبضرورة تشييع
ثقافة حقوق الإنسان ونبذ العنف والعيش المشترك بين الشعوب، وترسيخ التسامح وقيم
الفضيلة، وفتح قنوات تلفزيونية ووسائل إعلام أخرى ناطقة باللغة الكردية في المناطق
العربية تقوم بوظيفتها في نشر قيم أخوة الشعوب والتعايش المشترك.
وبناء على ما
سبق يمكن سرد عدد من المقترحات لبناء أسس الحوار الناجح في ظل اتحاد اختياري
وشراكة عادلة نلخصها في النقاط التالية:
1 - يتعين
على الشعب العربي أن يحترم حق الشعب الكردي في تقرير مصيره، وأن يؤمن بأن الشعب
الكردي هو جزء من الأمة الكردية، وأن الكرد يعيشون على أرضهم منذ آلاف السنين ولهم
خصوصيتهم التاريخية، والقومية، والاجتماعية، واللغوية التي يجب احترامها.
2 - ثمة روابط
تاريخية ولغوية ودينية وجغرافية مشتركة بين الشعبين وبين الأمتين، تحتم عليهما
مواجهة القوى التكفيرية والارهابية في المنطقة.
3 - ضرورة
التخلص من الفكر العنصري الضيق، الذي جلب الكوارث على البلاد والعباد، والتخلي عن
سياسة إلغاء الآخر وصهره. ولا بد من الإيمان بقيم التسامح، ولاسيما في ظل العولمة
واحترام حقوق الإنسان وبناء الديمقراطية والمجتمع المدني.
4 - يقع على
العرب والكرد مسؤولية تطوير العلاقات وتنميتها والاعتراف بالآخر، وأنه من حق الكرد
الاستقلال إذا رغبوا في فك الشراكة والاتحاد الاختياري، لأنه حق مشروع قانونًا لهم
إذا استحال العيش المشترك. ولا يمكن اللجوء إلى القوة لفرض التعايش، فالشراكة لا
تقوم إلا بالتراضي والفهم المتبادل. والأهم من ذلك هو خيار الشعب الكردي في تحديد
نمط العلاقة داخل الوطن الواحد بالرجوع إليه، لأنه هو المرجعية في هذا الميدان.
ولابد من الاعتراف أن الذي يستفتى على نمط العيش والشراكة هم الكرد.
5 - إقامة ندوات ومؤتمرات دورية توعوية
متواصلة عن مفاهيم المواطنة والفيدرالية، والعيش المشترك، وحقوق الإنسان والثقافة
الجديدة غير العنصرية. وذلك بهدف خلق وعي مشترك وتهيئة الأرضية للأعمال المشتركة
التي تحيي وتتبنى القيم الاجتماعية التكاملية.
6 - يقع على
عاتق المثقفين العرب، ووسائل الإعلام العربية، واجبات أخلاقية وإنسانية في تطوير
العلاقات بين الشعبين العربي والكردي، وفي نقل الحقيقة كما هي وفقًا لقواعد
أخلاقيات المهنة في العمل الصحفي، ووفقًا لدور المثقفين العرب في ضرورة ترسيخ قيم
التسامح والتفاهم، واحترام الخصوصيات لكل شعب. فقد عانى الكرد من التعتيم
الإعلامي، والغبن الكبير من وسائل الإعلام العربية – وحتى الإسلامية - وهو تقصير
واضح يمس شرف المهنة.
7 - إقامة مراكز
ترجمة وبحوث مشتركة لزيادة التعارف والتواصل بين الثقافتين.
8 - تشجيع
وتطوير صناعة السياحة بين الشعبين للتعريف أكثر على التاريخ والثقافة المشتركة.
9 - بناء آليات
مشتركة للتصدي للارهاب والأفكار المتطرفة الدينوية منها والعصبوية القوموية.
كما يمكن اقتراح
إعداد ميثاق شرف للشراكة العادلة، وللحوار العربي-الكردي تتبناه جامعة الدول
العربية، من أجل توثيق العلاقات العربية-الكردية، وبناء السلام والديمقراطية
والمجتمع المدني، في ضوء قواعد الاتحاد الاختياري.
ومن الممكن بعد
هذا الطرح الابتعاد عن الخطب الجوفاء والاعتماد على العقل وما هو متاح. ووفقًا
للمشهد الحالي ينبغي أن يكون للدولة المصرية دور في رأب الصدع في المنطقة. وذلك
بالعمل على تقريب وجهات النظر بين دول الجوار وشركاء المنطقة مما يبعد شبح الحرب
التي حاولت بعض الاطراف إذكاءها على أساس تحرري تارة وطائفي تارة أخرى، مما يضعنا
أمام مسؤولية تاريخية أمام الاجيال القادمة، والعمل على إعمار المنطقة والابتعاد
عن الاقتتال والفتن وألاعيب بعض الدول الإقليمية وخاصة تركيا. والكل يُدرك دور
ومكانة مصر في المنطقة ليس الآن فقط بل وعبر التاريخ كان ولا زال لمصر دور ريادي
في قيادة المنطقة نحو الأمن والأمان والاستقرار. وإنه بمقدور مصر أن تشكل جبهة مع
الكرد في الدول التي يعيشون فيها للتصدي لأية محاولة تسعى إلى نشر الفوضى في
المنطقة.