كل يوم وأنا فى طريقى إلى عملى أراها شعلة نشاط تصحو مبكرا تجر عربة صغيرةعليها قدرين أحدهما يحوى الكباب الشعبى أى الفول والآخر البليلةالشهيةوعندما تصل إلى موقعها المعتاد تحت كوبرى غمرةتقف وتوضب بضاعتها، وتسمى بصوت عال وتقول جملتها التى لا تمل من قولها منذ أكثرمن عشرين عاما وهى: استعنا على الشقا بالله ؛ ويمضى يومها، وتفرغ أوانيهاوهى سعيدةبمحبة الناس وبالرزق الذى وهبها الله إياه.
كل يوم وأنا أتابعها منذ إنكنت تلميذةفطالبة فزوجة فأم ؛ هى كما هى نموذج للعطاء والصبر والوجه المبتسم دائما دوما ؛ إلا أن جاء يوما ولم أرها، وجاء يوم آخرفأسبوع فاثنان ؛ وهنا ساورنى القلق والخوف فقد كانت وأصبحت جزءا من تكوين يومى ولم أكن مخطئةلو قلت إنها كانت دفعة فى حياتى فقد كنت أستمد منها القوةوالأمللمجرد رؤيتها وهى تواصل سعيها للحصول على لقمة العيش رغم زحف الزمن عليها وتركه آثاراوهن وتعب على تكوينها الجسدى ؛ ومع أنيلم أتحدث معها أبدا إلا أننى كنت أواظبعلى شراء الكباب الشعبى منها والبليله الشهيةحتى وإن لم آكلمنهما إلاقليلًا.
المهم قلقت عليها وقررت أن أعرف سبب غيابها ؛ فسألت عنها وعرفت عنوانها ؛وقررت زيارتها متحملة العواقب أيا كانت وذهبت إلى حيث تقيم وطرقت الباب ؛ ففتح لى شاب تشبه ملامحه إلى حد كبير ملامح السيدة التى جئت من أجلها؛ فسألته: أنا كنت عايزة أطمن على أم أحمد ؛ وهذا هو الاسم الذى يناديها به كل زبائنها فتجهم وقال: هى بخير ..فقلت له: ممكن أشوفها، فتردد ثم قال لى: أوى أوى، اتفضلى، وتبعته إلى حجرة مرتبة أنيقة وفيها رأيتها تجلس جميلة الملامح، عفية كما هى، فسلمت عليها بشوق وحرارة، وقلت لها: الله ما أنتى بخير أهه امال خوفتينا عليكى ليه ؟ ردت، ربنا يباركلك، حكم القوى عليا الولاد كبروا ومش عايزنى اشتغل ،بيقولوا كفايه لحد كده احنا لازم نردلك الجميل ؛ ونظرت إلى ابنها قائلة: مش كده يا أحمد؟ فتبسم وانصرف وجاء بعد سويعات حاملا معه حاجة ساقعة وقطع من الحلويات وتركنا وانصرف.
وساعتها بكت هى بحرقة وقالت: العيال بيستعروا منى ، تصدقى مكسوفين من صحابهم، ومش عايزين اشتغل بعد ماضهرى انحنى وعلمتهم؛ اللى دكتور، واللى مهندس ، واللى مذيعه ؛ وبدل ميقولوا ياامه انتى تعبتى هنريحك ، ونعملك مشروع تديريه ونحول العربيه لمطعم ولا اللى بيقولوا عليه كافيه؛ بدل مايقولوا كده ال ايه يقولوا انتى بتخلينا مطاطيين ادام صحابنا ، حكموا عليا بالموت ، وأصدروا أوامرهم بانى مااخرجش من البيت ، وعملين عليا دوريات حراسة ورموا العدة كلها، وبيقولوا انهم مش عارفين يبداوا حياة زوجية، هيقولوا ايه للناس اللى هيناسبوهم ؟ امنا بياعة فول ؟ مش قادرين يقولولهم ان امنا وهبت نفسها لتربيتنا من يوم ماابونا مات وسابنا ؛ ومرديتش تتجوز وشافت الويل عشنا ، لا مش قادرين يقولو كده ...
ونظرت إلى وأنا أتحايل على دموعى ألا تنهمر وأظهر لها أن أبناءها لم يقصدوا ذلك بل على العكس هم يريدون أن يعوضوها عما فاتها؛ لوهلةهممت أن أنادى على أبنائهاوأعنفهم وأقول لهم هذه السيدةبطلة؛ رمز للعطاء ، ولم تكن تستحق منكم هذه القسوةإلا أننيتراجعت عندما رأيتهاتبتسم إلى ابنها الذى جاء يسألناهل نحن بحاجة إلى أى شىء ؛ وكأنهكان يريد أنيعلم هل اطلعتنى أمهعلى سر غيابها عن العمل ، فإذابها تدعو لهم وتشكرهم على النعيم الذى تعيشه بايديهم ..وعندها سلمت عليها ووعدتها بتكرار الزيارة، وصحبنى ابنها حتى سيارتى ولم أسلمعليه واكتفيت بالتلويح له ورجعت إلى بيتى منكسرة وتخوفت من عقوق الأبناءودعوت الله كثيرا وهو أعلمبما دعوته.