عمرة القضاء .. هي العمرة التي تم الاتفاق عليها في صلح الحديبية بين رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقريش، ووقعت أحداثها في أواخر العام السابع من الهجرة وعُرِفَتْ بـاسم عمرة القضاء.
أسباب عمرة القضاء
لما رجع المسلمون من الحديبية وقد صدّهم المشركون عن البيت الحرام، اتفق الفريقان -المسلمون والمشركون- على أن يعود المسلمون عن مكّة عامهم هذا ثمّ بعد سنة يعودون إلى مكّة فيعتمرون.
أهداف عمرة القضاء
كان من أهداف هذهعمرة القضاءهو تصديق رؤيا النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في دخول المسلمين مكّة أوّل مرة؛ إذْ ظنّ المسلمون أنّ رؤيا النبيّ هي يوم الحديبية، ولكنّهم لمّا عادوا ولم يدخلوا مكّة اتّفقوا على أن يعودَ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه إلى مكة عامهم المقبل فيعتمروا، فأنزل الله -سبحانه- الآية التي أخبرتهم أنّ الذي فَعلوه -أي الصّلح- هو فتح، أو مقدّمة لفتح قريب؛ إذ قال عزّ من قائل: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا».
لماذا سميت عمرة القضاء بهذا الاسم
سميت عمرته صلى الله عليه وسلم التي كانت بعد الحديبية بعمرة القضاء، وعمرة القضية، لأنه صلى الله عليه وسلم قاضى قريشًا عليها كما قال أهل السير،وذكر "الحافظ" في الفتح: سميت عمرة القضاء لأنه قاضى فيها قريشًا، لا لأنها قضاء عن العمرة التي صُدَّ عنها، لأنها لم تكن فسدت حتى يجب قضاؤها، بل كانت عمرة تامةً. ولهذا عدوا عُمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم أربعًا.
أحداث عمرة القضاء
خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع ألفين من أصحابه، وحمل معه سلاحًا كثيفًا، وأخذ عُدَّةَ حربٍ كبيرةً تحسُّـبًا لأي خيانة من قريش، ولكنه كان ينوي دخول مكة -كما اتفق مع أهلها العام الماضي- بسلاح المسافر فقط.
ورأت عيون قريش الأسلحة فَفَزِعَتْ، وأرسلت وفدًا برئاسة «مِكْرَز بن حفص» ليستوضحوا حقيقة الأمر، فقابلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بطن يأجج بمر الظهران، فقالوا له: يا محمد؛ والله ما عرفناك صغيرًا ولا كبيرًا بالغدر.. تدخل بالسلاح الحرم على قومك، وقد شرطتَ ألاَّ تدخل إلاَّ على العهد، وأنه لن يدخل الحرم غير السيوف في أغمادها؟!
ووصلت قريش إلى حالة من الضعف لا تستطيع فيها أن تُواجه قوَّة المسلمين، فكان هذا الفزع من القوَّة الإسلامية، وكان من الممكن أن يستغل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الفزع والهزيمة النفسية، وكان من الممكن أن يستغلَّ اقترابه من مكة إلى هذه الدرجة، وهو في ألفين من رجاله مدجَّجِينَ بالسلاح، كان من الممكن أن يستغلَّ ذلك كله في غزو مكة بحُجَّة استرداد الحقوق، أو بحُجَّة المعاملة بالمثل جزاء حصار الكفار للمدينة في غزوة الأحزاب؛ كان من الممكن كلُّ ذلك، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-لم يفعل ذلك، لأنالمسلمين عند عهودهم مهما كانت الظروف؛ ولذلك أجاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثقة: «لا نَدْخُلُهَا إِلاَّ كَذَلِكَ». وسمع مِكْرَز الكلمة وطار مسرعًا إلى مكة يقول لهم: إن محمدًا لا يدخل بسلاح، وهو على الشرط الذي شرط لك. لقد قال مِكْرَز هذه الكلمات وهو على يقين من تحقُّقها، وما دام قد قال –صلى الله عليه وسلم- فلا شَكَّ أنه صادق.
ووضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السلاح خارج مكة، وترك معه محمد بن مسلمة في مائتي فارس لحمايته، ودخل هو وبقية الصحابة لأداء العمرة بالسيوف في أغمادها كما وَعَدَ، وكان الاتفاق على أن تُخْلِيَ قريشٌ مكة بكاملها للمسلمين مدَّة ثلاثة أيام كاملة لأداء مناسك العمرة، وقد تمَّ ذلك، ووقف المشركون على رءوس الجبال المحيطة يُشاهدون مناسك العمرة طِبْقًا للشرع الإسلامي.
عمرة القضاء
وتمَّت العمرة المباركة، وارتاحت قلوب المسلمين برؤية الكعبة والطواف حولها، ومرَّت الأيام الثلاثة بسرعة، وفي آخرها تزوَّج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ميمونة بنت الحارث العامرية الهلالية –رضي الله عنها، وهي خالة خالد بن الوليد من كبار زعماء قريش، وأخت أُمِّ الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- عَمِّ الرسول –صلى الله عليه وسلم، ولهذا الزواج بُعْدٌ سياسي واضح؛ فخالد بن الوليد ليس قائدًا هامشيًّا في مكة، بل هو أعظم قُوَّادها العسكريين مُطلقًا، وكان من الواضح أنَّ حِدَّة طباع خالد قد خَفَّتْ مع المسلمين جدًّا بعد وقعة الحديبية؛ لِمَا رآه من أحوالهم، ومن إحساسه أنهم مُؤَيَّدُون بقوَّة خارقة لا يعرفها، حتى إنه يوم الحديبية يصف الرسول –صلى الله عليه وسلم- وجيش المسلمين بقوله: «الرَّجُلُ مَمْنُوعٌ».
عمرة القضاء
لقد غَيَّرَت الأحداث نفسية وسلوك خالد بن الوليد، وزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خالته سوف يُقَرِّبُ منه أكثر وأكثر، ولو حدث وأسلم خالد فإن هذه ستكون إحدى الضربات القاضية للكفر وللكافرين، وسبحان الله! فقد أسلم خالد -رضي الله عنه- بعد شهور قليلة من عمرة القضاء مُثْبِتًا بذلك عمق نظرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وبعد انتهاء الأيام الثلاثة المحدَّدة للعمرة جاء سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى موفدين من قِبَل قريش لحثِّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه على الخروج؛ فقالوا له بغلظة: إنه قد انقضى أجلك؛ فاخرج عنا. فأراد -صلى الله عليه وسلم- أن يتلطَّف معهم بالرغم من جفائهم، فقال لهم: «وَمَا عَلَيْكُمْ لَوْ تَرَكْتُمُونِي فَأَعْرَسْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَصَنَعْتُ لَكُمْ طَعَامًا فَحَضَرْتُمُوهُ؟».
وأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكون طبيعيًّا تمامًا في تعامله معهم؛ بل أراد أن يكون ودودًا كريمًا مضيافًا يدعوهم إلى طعامه وشرابه واحتفاله بعُرسه، متناسيًا تمامًا تاريخهم الأسود معه.
عمرة القضاء دروس وعبر
تضمنت عمرة القضاء العديد من الدروس والعبر والدلالات التي تمثّلت بالعديد من الوقائع التي حصلت قيها، وفيما يأتي بيان جانب منها:
- كانت عمرة القضاء بمثابة الخطوة التي مهّدت لفتح مكة، فالمسلمون كانوا كاليد الواحدة محيطين بالرسول --صلى الله عليه وسلم-- أثناء أداء مناسك العمرة، بكل عِزّة وقوة ومنعة، وذلك كان سببًا في زعزعة نفوس المشركين، الذين كانوا يتصوّرون ضعف المسلمين لاعتقادهم بأنّ هذا ما سيؤول عليه حالهم بسبب تأثرهم بسوء مناخ يثرب، وإصابتهم بالحُمّى، فإظهار المسلمين لقوتهم أمام الكفار كانت من عوامل فتح مكة، ومما يدل على ذلك ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنه، حيث قال: «قدم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأصحابُهُ، فقال المشركونَ: إنه يقدُم عليكُم وفدٌ، وهَنتْهُم حُمَّى يثربَ».
الحرص والحذر من المشركين والكفار، بأخذ الاحتياطات وإعداد العدة التي تزرع الخوف في نفوس الكفار، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يأمن من غدر الكفار أو خيانة عهدهم كعادتهم.
اقرأ أيضًا: