الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمود أبو حبيب يكتب: هذا هو الصعيد إنْ كُنْتَ جاهِلَهُ (1)

صدى البلد

ضرب الصعيد على مر التاريخ مثالًا للكرم والرقي في التعامل كسلوك إنساني نابع من فطرة سليمة، وليس أدل على ذلك من شهادة كل من زار أهل الصعيد أو تعامل معهم سواء في حلهم أو ترحالهم، فالصعيدي حتى في غربته مضياف يجود بالروح قبل المال، ما جعل المؤرخين على مر التاريخ يُوثقون ذلك، فقال المقريزي في وصفِه لكرم أهل الصعيد "وبلغ من كرم الصعيد أن الرجل في أيام الناصر محمد بن قلاوون كان یَمُر من القاھرة إلى أسوان فلا یحتاج إلى نفقة بل یجد دورًا للضيافة بكل بلد وناحية، فإذا دخل دارًا منها أُحضر لدابته عَلفُها وجِيء له بما یلیق به من الأكل ونحوه"، فهو هنا لم يقصد استثناء هذه الفترة دون غيرها؛ لكنه يوثق لصفات أهل الصعيد في العصر الذي وجد فيه، فأهل الصعيد على مر العصور بالكرم والجود معروفين، فلا يقتصر كرم الصعايدة على البذل والعطاء بالمال والطعام وحسن الضيافة؛ بل يتعداه لما هو أجل وأعظم من ذلك وهو العفو مع المقدرة، فذكرت الأمثال التي تربى عليها أبناء الصعيد "إن جالك عدوك لبابك قول له يا مرحبا بك".

فبلغ مبلغ الإبهار في شخصية الصعيدي عفوه عند المقدرة، والحلم على إساءة الآخرين فيضبط انفعاله ليرد الرد السديد أو يصفح الصفح الجميل، ودائمًا الصعيدي يتحلى بالصبر عندما يجزع الآخرين، وهذا هو منتهى القوة، ولسانه ينطق بالحق، دائم العدل في الخصومة؛ فكما هو معهود عنه أنه يقول الحق لو على "أبوه"، أما غيرته فلا تقتصر على أهل داره؛ بل تتعداهم إلى غيرته على الجيران ليستظل بغيرته أهل قريته، فتَحسنُ عشرته وتأمنُ جيرته وتعهدُ إليه، فإذا جار عليك الزمان يومًا وجدت فيه العون دون أن تطلبه. 

أما المرأة الصعيدية فحدث ولا حرج فمهما طال الزمن وانطوى على أجياله، لا أحد يستطيع أن ينكر مكانتها ليس لكونها صاحبة تأثير ومكانة في كل المجالات، ولا لكونها طبيبة ومهندسة وقاضية أو وزيرة؛ لكن لكونها أم عظيمة تحملت وكدحت لتربي أولادها وترعى بيتها بأقل الإمكانيات وفي أصعب الظروف، هي الأم والأب في نفس الوقت إذا ما اضطرتها الظروف لذلك، فتكون السند والملجأ لأبنائها، هي المرأة التي غاب زوجها لسنوات في الغربة ليجلب لهم ما يُعينهم على الحياة، فصمدت وتحملت دون كلل أو ملل، هي المرأة التي مات زوجها فتناست نفسها وظلت الشمعة التي تحترق من أجل مستقبل أفضل لأبنائها، هي الأبنة التي تشد من أزر أبيها وتربط على قلب أخيها وتشد من عضد ابنها ليواجه الصعاب، فلا يعرف مكانة هذه المرأة العظيمة إلا من أسعده حظه وكأنت أمه أو أخته أو زوجته، فإن لم يكن فَسَل عنها العقاد والمنفلوطي والسيوطي والطهطاوي، والإمام المراغي والشيخ الباقوري والإمام الطيب، وغيرهم من علماء الدين والطب والفلك واللغة وكل العلوم أن شئت، أو ابحث عن سر صلابة وجسارة وزعامة عبد الناصر ستعرف من هي المرأة  الصعيدية، فلو شئت فقل أنها الجندي المجهول الذي يقف خلف كل نجاحات أبناء الصعيد، قصصها لا تكفي لها ماء البحار مدادا، وما صدر في حقها لا يمكن أن نقبله، وفوق كل ذلك نفديها بأرواحنا.

"عظيم بلاد الصعيد ومن كان خيره يعم القريب والبعيد"، بهذه الكلمات رثى الجبرتي وأحد من الشخصيات الصعيدية الفذة التي كانت قصته حدثًا ملهما للأجيال ومضربًا الأمثال، ليس لقوة الرجل ومكانته فقط بل لصبره وحلمه وعدله وحكمته، فلا غرو أن يقف الصعايدة اليوم على قلب شيخ العرب "همام" ضد من أساء إليهم، وإن كان كرم أهل الصعيد يشمل ذلك المخطئ بعدما جاء إليهم معتذرًا ومقرًا بخطأه، ولا أظن أن الكرام يردون من قصدهم، ليظل يحكي عن كرم الصعيد وشيمه.