منذ تولي الرئيس الأمريكي (جوزيف بايدن) مقاليد الحكم بات واضحًا أن إدارته تسعى إلى حل مشاكل الشرق الأوسط بالدبلوماسية وأن من أهم أولوياتها الملف الإيراني الذي يُولى له الرئيس أهمية كبرى تطغى حتى على الملفات الداخلية والتحديات التي يواجهها بايدن مثل إعادة الوحدة للشعب الأمريكي وإيصال اللقاح إلى مئات الملايين من الأمريكيين والأزمة الإقتصادية وإغلاق عشرات الآلاف من الشركات (180) ألف شركة.. إضافة إلى طبيعة العلاقة مع الجمهوريين..
وخلال الشهر المنقضي كان هناك العديد من التصريحات الإيرانية والأمريكية المتبادلة بشكل شبه يومي حول العودة الأمريكية للإتفاق النووي ورفع العقوبات الأمريكية التي أنهكت الإقتصاد الإيراني والتي تصل في مجملها إلى (1500) عقوبة منها (700) عقوبة وضعها الرئيس السابق دونالد ترامب و(800) عقوبة سابقة لعهد ترامب.. بينما الولايات المتحدة تُصر على إلتزام إيران الكامل ببنود الإتفاق النووي أولًا..
كان كل طرف يلقي بأوراقه في ساحة الإعلام ثم الدبلوماسية فإيران لديها ورقة ضغط وهي التسريع في برنامجها النووي ورفع نسبة تخصيب اليورانيوم بنسبة 20% والتهديد بوقف البروتوكولالإضافي أي خفض مستوى التعاون مع وكالة الطاقة الذرية وأمريكا بالطبع لديها ورقة العقوبات.. شروط وشروط مضادة وكل طرف يريد أن يلزم الطرف الآخر بالخطوة الأولى.
فالرئيس الإيراني (حسن روحاني) قال: (لا يمكن لأي طرف أن ينتظر من إيران الخطوة الأولى لأنها لم تنسحب من الإتفاق 5+1 ولذلك فعودة أمريكا أولًا هي الخطوة الأولى).
ورد عليه (أنتوني بلينكن) وزير الخارجية الأمريكي قائلًا (سنعود إذا التزمت طهران بتعهداتها في الاتفاق وبالتشاور مع حلفائنا سنسعى إلى اتفاق أقوى وأطول يشمل الصورايخ الباليستية وسلوك إيران المزعزع في المنطقة).
ورغم وجود أصوات داخل الإدارة الجديدة تطالب (بايدن) بأن تستغل الولايات المتحدة العقوبات لكي تدفع إيران لتقديم تنازلات حول الصواريخ الباليستية والدور التخريبي لها في المنطقة إلا أن الرئيس بايدن وأثناءمشاركته في قمة ميونخ الإفتراضية للأمن أعلن رسميًا قبول دعوى المفوضية الأوروبية والعودة للتفاوض في الإتفاق النووي 5+1 كمبادرة حسن نية وهو خطوة أثارت ردود فعل غاضبة من الجمهوريين وخاصة زعيم الأقلية الجمهورية في الكونجرس (كيفين مكارثي) الذين رأوا أن هذا ليس وقت العودة للتفاوض مع إيران وأن هذه العودة وما سبقها من خطوات كوقف آلية سناب باك (إعادة فرض حظر الأسلحة على إيران من قبل مجلس الأمن) وإلغاء تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية وهي أحد أهم الأذرع الإيرانية وعدم الرد على الهجوم على القاعدة العسكرية الأمريكية في آربيل الذي نفذه وكلاء فيلق القدس كل ذلك يُعد مكافأة لإيران على سلوكها المُشين..
على الجانب الآخر لم يكن هناك ترحيب كبير من الجانب الإيراني بمبادرة حسن النية التي اتخذهاالرئيس (بايدن) فقد انقسمت الآراء.. فالمتشددون وصفوا الخطوة بأنها ما هي إلا فخ لإيران..
وحكومة روحاني عبرت بتفاؤل حذر بأن الخطوة هي أنباء إيجابية متفائلة لكن يجب إلغاء العقوبات.
وبذلك يكون الجدل الدائر طيلة الفترة الماضية حول من سيذهب أولًا للتنازل وللخطوة الأولى قد حسمه الرئيس (بايدن) وأقدم هو على تلك الخطوة ولكن لا أقصد هنا بالخطوة الأولى قراره العودة للمفاوضات إنما في تصوري أن الخطوة الأولى بدأتهاالإدارة الأمريكية منذ تعيين (روبرت مالي) مبعوثًا لإيران وهو رجل معروف عنه تعاطفه مع الجانب الإيراني وكان أحد أهم مهندسي الاتفاقالنووي في 2015 هو ووزير الخارجية (بلينكن) كلهم لعبوا أدوار ثانية في عهد أوباما والآن تصدروا المشهد في عهد بايدن ولو حاولنا البحث في أسباب إتخاذ إدارة بايدن هذا القرار سنجد أنه نابع من القلق المتزايد في واشنطن من القدرات المتزايدة لإيران وأذرعها (الحوثيين وحزب الله).. أيضًا عامل الوقت ضاغط وبشدة فأمريكا تسعى للتوصل لإتفاق مع الإصلاحيين قبل إنتخابات الرئاسة الإيرانية في يونيو القادم التي إذا أتت بالمتشددين سيكون الأمر أكثر تعقيدًا والمفاوضات أكثر شراسة.
لذا اختارت البدء مع مفاوضات مجموعة 5+1 على أمل إحراز تقدم ثم الإنتقال إلى ملفات أخرى ولكن هذه الخطوة ستجعل الحوار الشامل وإشراك أطراف أخرى صعب المنال لأنه يشجع إيران على التعنت فمن الواضح أن أمريكا تواجه نظام الملالي بدون خطة منظمة أو إستراتيجية واضحة والجبهة الأوربية ضعيفة وتراخت كثيرًا باستثناء الموقف الفرنسي أمام الولي الفقيه.
إن إيران تخطط لأن تكون قوة إقليمية والسيطرة على كل دول الشرق الأوسط ولا حدود معينة للنظام الإيراني الذي يسعى لبناء إمبراطورية الولي الفقيه والحصول على القنبلة النووية ليس للخدمات الإنسانية وتوليد الكهرباء للشعب الإيراني كما يدعي وأكبر مثال على ذلك أن مفاعل (بو شهر) لا يزود إيران سوى بـ 2% فقط من ناتج الكهرباء أي أن 98% من الكهرباء تستمدها إيران من مناطق أخرى.
إن إيران بإختصار دولة غير شرعية ويحكمها الحرس الثوري والمرشد خامنئي بقمع الشعب الإيراني.. لقد كان لوزير الخارجية الأمريكي السابق (مايك بومبيو) كلمة هامة جدًا تلخص الحالة الإيرانية قال: (الولي الفقيه في إيران لا يعرف إلا منطق القوة)...
ولو أجرينا مقارنة بين زيارة (رافيال غروسي) مدير الوكالة الدولية للطاقة إلى طهران في أغسطس الماضي وزيارته بالأمس لتأكدنا من هذه المقولة ففي أغسطس الماضي إتفقت إيران معه بسرعة لأنها كانت متخوفة من إدارة ترامب وأنه من الممكن أن يوجه لها ضربة عسكرية ولكن بالأمس لم يستطع الوصول معهم إلى شيء سوى المماطلة لأنهم أدركوا أن هناك إدارة ضعيفة في الولايات المتحدة منعوا المفتشين من مشاهدة المواقع النووية بحجة أن كاميرات المراقبة معطلة ولن يتم إصلاحها قبل رفع العقوبات!!
ولذلك أيضًا أقدمت على تنفيذ تهديداتها الدرامية الأخيرة بوقف العمل بالبروتوكول الإضافي وصعدت عبر ميليشياتها في العراق واليمن..
إن أي مقاربة جديدة للملف النووي الإيراني لا بد أن يشمل مدى تأثير ذلك على إسرائيل ودول الخليج وخاصة السعودية وتدخلات إيران الخبيثة في دول الجوار فهناك قلق إسرائيلي حيال برنامج إيران النووي وتجاه إتفاق 2015 الذي سمح لإيران بتخصيب اليورانيوم كما أن المشكلة بالنسبة لإسرائيل هي البرنامج الصاروخي الإيراني الذي يكفي للوصول لأي بلد ولديها قدرات تدميرية هائلة..
وبالنسبة لدول الخليج يبقى هاجس كيف تضمن أمنها؟ فإيران باتت أقرب إلى تصنيع مواد إنشطارية أكثر من أي وقت مضى وهناك أخطار بيئية عليها من المفاعلات النووية الإيرانية وبرغم أن دول الخليج سوف تتعامل ببرجماتية مع الوضع الحالي فهي تريد إتفاق سلمي يريح المنطقة من شبح الدخول في حرب تدمر اقتصادهاولذا سوف ترتضي بما ستتوصل إليه أمريكا شريطة أن تتمثل الهواجس والتخوفات الخليجية على طاولة المفاوضات وأن يكون برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية الخطير جدًا قيد مسودة الإتفاق إذا أرادت أمريكا تطوير إيجابي للاتفاقالنووي..
خلاصة القول..
بمنطق الأزمات والتفاوض الدولي بعيدًا عن الأبعاد السياسية نحن أما كفتي ميزان الإيراني والأمريكي وأمام مرحلة مختلفة تمامًا عن الأربع سنوات الماضية وربما تحدث مفاجئات في الأسابيع والأيام القادمة فظهور التقرير الكامل حول الأنشطة النووية الإيرانية من الممكن أن يعقد العودة السلسلةلأمريكا لذا فلا يكفي خطوة حسن النية التي اتخذها الرئيس الأمريكي والتي أسمتها الصحف الإيرانية عودة بايدن ولكن الأهم كيف ستكون العودة؟ ومتى؟ وبأي ثمن سياسي واقتصادي؟.