الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أحمد قاسم يكتب: بورات VS ترامب.. أنا أسخر إذن أنا موجود إذن يسقط البيت الأبيض

صدى البلد

 
 
في فبراير 2020، كان مايك بنس، نائب الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، يلقي خطابًا أمام حشد غفير للحزب الجمهوري.. أثناء الخطاب لاحظ بنس أمامه وجود حالة من الهرج والمرج بين الجمهور.. صراخ عنيف، ضحك هستيري وتدافع، لكنه لم يقطع خطبته.

 بعدها بيوم عجّت وسائل الإعلام في الولايات المتحدة بخبر مفاده أن شخصًا متنكرًا في هيئة ترامب ويرتدي قناعًا بلاستيكيًا يحاكي وجهه، وقد اقتحم قاعة أحد مؤتمرات الحزب الجمهوري، حيثما كان بنس يلقي خطابه غير المهم، ثم ظل يهتف بعبارات نابية ضده وضد ترامب حتى تمكنت الشرطة من اقتياده للخارج في مشهد عبثي.. الواقع كوميديا سوداء!

في أكتوبر 2020، استيقظ روجي جولياني، محامي ترامب الشخصي، على مكالمة هاتفية من أحد أصدقائه، قال له إن اسمه أصبح "تريند" على السوشيال ميديا، بعد انتشار مقطع فيديو له أثناء مقابلة صحفية مع فتاة مراهقة، تحولت في نهايتها إلى فضيحة أخلاقية بعدما تحرش بها في غرفة أحد الفنادق في نيويورك.

ثمة مصطلح سياسي شائع يعرفه الأمريكيون جيدًا منذ عهد الرئيس رونالد ريجان، هو "مفاجأة أكتوبر" حيث تشهد البلاد حدثًا ضخمًا يهز الدوائر السياسية، بالتحديد، مع انطلاق كل موسم انتخابي رئاسي في شهر نوفمبر كل 4 أعوام.. كانت مفاجأة أكتوبر 2020، هي مقطع رودي جولياني.

لم يكن جولياني ولا بنس في حاجة إلى فضائح جديدة قبل انطلاق المارثون الانتخابي، لكنهما لم يعرفا أن رئيسهما، الذي خسر في الانتخابات بشكل مدوٍ، ارتكب أكبر فضيحة سياسية في القرن الراهن: التحريض على اقتحام الكونجرس.. والآن لا تزال مسألة محاكمته برلمانيًا مفتوحة للتداول السياسي.

ومع ذلك، وبعد فيديو جولياني بأيام، خرج الكوميديان البريطاني، ساشا بارون كوهين، وهو متقمصًا شخصيته الشهيرة بورات، الصحفي الكازاخستاني، ليعترف أمام الملايين أن فيديو جولياني كان مدبرًا، وأنه هو الذي دبّره، وأنه هو الذي اقتحم مؤتمر بنس، حتى يسجل مشاهد تظهر في فيلمه الجديد "بورات 2". 

أثار هذا الخبر موجة جدل كبيرة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، فها نحن بعد 14 عامًا نرى شخصية الصحفي القروي الكازاخستاني بورات ساجدييف تعود للحياة في فيلم روائي طويل آخر، والآن بدا أن بورات كان جزءًا من فورة الغليان الشعبي ضد ترامب، والتي ساهمت في قتله سياسيًا للأبد.

لا أحد يعلم بالتحديد ما الذي دفع كوهين للتراجع عن قراره وإعادة إحياء الشخصية، التي أعلن قديمًا أنه لن يجسدها مرةً أخرى لأنها أصبحت شهيرة الأمر الذي يجعل تصوير فيلمًا على غرار الجزء الأول صعبًا للغاية، نظرًا لطبيعته الشبيهة ببرامج الكاميرا الخفية، أو كما يعرف لدى النقاد بأنه فيلم روائي هزلي Mockumentary .

 على مدار السنوات الماضية، كان يبدو تعلق كوهين ببورات شديدًا من خلال ظهور الشخصية على البرامج الفكاهية وعروض الترفيه، ومع ذلك يلوح سبب رجوعه مجددًا سياسيًا أكثر منه فنيًا، فحقيقة أننا نعيش ظاهرة كونية مثل جائحة كورونا، وظاهرة أخرى مثل ترامب، تجعل شخصًا شهيرًا بفن السخرية السياسية  satire، مثل كوهين، يعود لتجسيد الشخصية مجددًا، إنهما ظاهرتين تشكلان مادة خام للسخرية السياسية.

كوهين حقق أرقامًا قياسية في عدد الدعاوى القضائية التي رفعت ضده بسبب بورات والشخصيات الأخرى التي يجسدها، خاصة شخصية علي.جي، الذي استطاع كوهين التنكر في هيئته عام 2003، واستضاف حينها ترامب وسخر منه أمام الملايين، وهو مقطع فيديو أصبح الآن شديد الرواج عبر السوشيال ميديا.
 
هذا إضافة إلى برنامجه الجديد "من هي أمريكا؟" الذي استضاف فيه أسماء مثل السناتور بيرني ساندرز ونائب الرئيس الأسبق ومهندس حرب العراق ديك تشيني،  حينها سخر كوهين منه في حادثة أثارت بلبلة شديدة، إذ تنكر في هيئة ضابط إسرائيلي وجعله يوقع على أحد أدوات التعذيب بالمياه، في إشارة منه إلى الاتهامات التي وجهت إلى إدارة جورج بورش الابن.

وفي 2009، أعلن قيادي في حركة فتح الفلسطيني، يدعى أيمن أبوعطية، أنه بدأ إجراءات قانونية لمقاضاة كوهين، الذي أظهره في فيلمه المثير للجدل برونو، الذي تقمص فيه شخصية صحفي ألماني استدرج أبوعطية للتحدث عن عمليات قتل ومشيدًا بزعيم تنظيم القاعدة الإرهابي آنذاك، أسامة بن لادن.

هذا النوع من الأفلام عادة ما يستخدم في الكوميديا والهزل والسخرية السياسية  satire، وفيه يقوم صانعه بتسجيل الواقع عبر الكاميرا ولكن يتم تحويره ليصبح خيالًا ما فوق-واقعي.

إن سحر وجمال الأفلام الروائية الهزلية، يكمن في عدم وجود تعريف واحد محدد وبسيط لهذا النوع من الأفلام، ورغم كل التعريفات تتفق على الإشادة بالمجهود الذي يبذله صانعوها من أجل إثارة الضحك لدى الناس، وهذا أمر لمن يعرف عسير جدًا؛ بيد أن "الضحكة الأصيلة"، تلك التي حيرت الفلاسفة وعلماء النفس طيلة الـ200 سنة المنصرمة، أصبح من المستحيل العثور عليها في الواقع الذي نعيشه، بتعبير الفيلسوف الفطحل "هنري برجسون".

ولتقريب الأمر، فلنتخيل مثلًا شخصية خيالية محضة، مثل زكية زكريا؛ هي شخصية تظهر دائمًا في برامج الكاميرا الخفية، وعندما نشاهدها ندرك نحن الجمهور أنه مقلب ولا يدرك الشخص المستهدف من قبل زكية زكريا أنه مقلب، لكن في حالة بورات، يضيف كوهين بُعدًا خياليًا جديدًا متلفحًا بقناع الواقع، وهو إيهام زائف من لدن كوهين للجمهور وللشخصيات المستهدفة بأن شخصيته حقيقية تمامًا، لها تاريخ وأصدقاء وحياة واقعية ومشاعر وبلد يعيش فيها أسمها كازاخستان، وهي بلد حقيقة رفعت دعاوى قضائية عديدة على كوهين بسبب فيلمه الأول.

كوهين يستخدم أهم ما يميز أفلام الروائية الهزلية، ألا هو تكنيك "تزييف الواقع" يأتي بشخصية خيالية تماما ويطلب من الجمهور أن يصدقها، وما أن نصدقها نحن، يتحول كوهين إلى بورات، الذي يرى في نفسه شخصية حقيقية تمامًا ثم يذهب ليقابل شخصيات حقيقية ومسئولين في أمريكا والبلدان الأخرى، ليظهر أسوأ ما فيهم.. بورات لا يخدعهم، لكن كوهين يفعل.

إن كوهين كوميديان غير تقليدي، فهو-كما يصف دائمًا-يعتبر ابنًا روحيًا لعملاق الكوميديا البريطاني "بيتر سيلرز"، هذا الذي قال عنه العظيم الراحل "محمد خان" في أحد خطاباته لـ"سعيد شيمي" إن موهبته على الشاشة تضاهي موهبته في الواقع "حتى في أوقات ضعفه"، وهو من  فطاحل مدرسة الضحك البريطانية التي من أشهر روادها فرقة "مونتي بايثون"، والتي كانت ضمن حركة فنية أوسع أعقبت الحرب العالمية الثانية عُرفت لاحقًا باسم "انتفاضة الهجاء"،، وهي حركة فنية وجدت جذورها في المسرح الشكسبيري والفيكتوري.

يرى النقاد في كوهين أنه تمكن من ضخ موجة جديدة للكوميديا البريطانية والسخرية السوداء من الواقع، من خلال تطوير تقنية "تزييف الواقع"، التي استلهمها من الأفلام الوثائقية لدى مخرجي الموجة الجديدة الإيرانية، مثل عباس كيارستمي. وهذا النوع من الكوميديا تطور في السنوات اللاحقة بشكل كوني ليصبح له أسمًا لاحقًا هو كوميديا "الغرابة والإحراج" Cringe comedy.

لكن ما يميز كوهين هو أنه يستغل عشوائية ردود أفعال الناس ويحولها إلى خيوط درامية ويجعل بعض هذه الخيوط محورية للحبكة والشخصية، وهذا ما بدا جليًا في الجزء الأول من بورات أكثر من الثاني، الذي يعتبر متواضع فنيًا.

جزء أساسي وجوهري من كوميديا الغرابة والإحراج هي أنها تأتي في سياق كوميديا الـ"ميم"  memeوهذا المصطلح أصبح شائعًا تزامنًا مع الطفرة التكنولوجية التي نعيشها الآن، فهو يستخدم  لوصف شعار أو فكرة تنتشر بسرعة من شخص إلى آخر عبر شبكة الإنترنت، وأضحت الآن ظاهرة اجتماعية في عصر تضاءلت فيه الفواصل بين الحياة الواقعية والافتراضية.

إن كوهين أشبه بالفنان الذي تكلم عنه الروائي الإسباني العظيم "ماريو فارجاس يوسا"، حينما قال إن "على الأدب أن يورط نفسه في حياة الشارع، في الجزء المخفي من التاريخ, كما كان يفعلُ في الماضي, دون أن يفقد متعته. وأن هذه هي الطريقة التي يستطيع بها الفنان أن يُساعد معاصريه وينقذ الأدب من مما يبدوا أحيانا كإدانة له بالضعف".