الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

إنجي الحسيني تكتب: بعد الرحيل

صدى البلد

في بهيم الليل وضعت شالها الأبيض فوق فستانها الشفاف وخرجت تفترش الرمال أمام البحر.. فالأمواج عالية وهدير البحر يثير في نفسها الشجون والذكريات الأليمة وهزيم الرياح من حولها يعبث بشعرها المنساب على كتفيها ليلطم وجهها بكل قسوة.

تمسكت بشالها بقوة وأغمضت عينيها برهة ليكبت الهواء العاصف دمعة تجمدت في حدقتيها قبل أن تعرف طريق خديها.

نظرت إلى البحر الغارق في الظلام وأنصتت بكل اهتمام لأصوات الطبيعة وحفيف أوراق الشجر من حولها، وداعبت الرمال بقدميها البيضاوتين وابتسمت بعد الحزن ابتسامة طيف، كانت أحاسيسها مقسومة نصفين ما بين الفرح والحزن، فلقد عشقه عشقًا مجنونًا جعلها راهبه في محراب الحياة، حين رفضت كل مشاعر الحب بعد رحيله.

ولطالما تعجب الناس من ذلك الإخلاص فهى التي تستمع بالحياة بكل صورها و ترتدى أفخم الملابس وترتاد أرقى الأماكن، و تنتقل مرتحلة بين طرقات مدينة النور كل عام، لتناجي الأماكن التى اعتادا زيارتها معًا و تتباكى ذكرياتها معه، بل تبتسم وتضحك من قلبها وهى تأكل نفس الطعام الذى تشاركاه يومًا وترتدى تلك الملابس الأنيقة وكأنها أمامه.

..................
بدأ المقربون منها يشعرون بالقلق عليها ويتنبأون لها بمصير مؤلم ما بين الجنون أو الانتحار.. وكيف يفهمونها وهم لايعرفون معنى الحب والوفاء.

تنهدت تنهيدة عميقة زفرت معها أنفاسها المشبعة بالحنين حتى ظنت للحظة أن أصوات الليل الطويل سكتت احترامًا لأوجاعها وأن الشاطىء الذى جمعهما يومًا وكأنه اختفى من مرمى بصرها…

كان لها الأب بعدما هجرها أبوها صغيرة والحبيب حينما افتقدت مشاعر الحب، وهو الزوج والسند حينما اختارها لتحمل اسمه وتشاركه حياته، أما عن قصة لقائهما فهى قصة عادية، قلبان تقابلا وتحابا وارتبطا بالرباط المقدس، ولم يكن العادى هو حبهما الكبير وإحساسها بالأمان معه.. واعتبرته هدية  الزمن أو مكافأة منه على سنوات حرمان عاشتها..

....................
سرحت بعيدًا بين عبق الذكريات، وهى تستعيد ذكريات الجامعة ...
 لقد تصادقا منذ الحظة الأولى حينما أراد أن يستعير دفتر محاضراتها، لم تكن من ذلك النوع الذي يملك جمالَا باهرًا مُلفتًا للأنظار، ولكن وجهها ذو ملامح رقيقة يبعث على الراحة، ولم يدرِ لماذا جذبته فهى أكثر من عادية حتى في ملابسها البسيطة، لربما شده خجلها وأدبها الشديد، وهو ما رآه في حديثها وتجنبها الوقوف معه بمفردهما حتى لا تتناولهما الألسنة والأنفس المريضة. 

و بمرور الوقت أصبحا متلازمين كصديقين وحبيبين وحبهما الطاهر يحركهما ويحفزهما على النجاح بتفوق .........
ضحكت بهستيرية وهى تتذكر جريه خلفها لينتزع ساندوتشًا تأكله، وكيف كان يزيح خصلات الشعر المنسابة على عينيها ليرى ذلك البريق البادئ في نظراتها إليه ..

ومضت سنوات الدراسة سريعًا وتخرجا بتفوق وعمل على الفور في شركة والده، فقام بتعيينها بجانبه.
 وعندما حانت لحظة الارتباط بها واجه بكل قوة رفض أبويه لذلك الاختيار لأنها من أسرة فقيرة لا حسب لها ولا نسب.. 

تمسك بها ورفض الخضوع لرغبات والديه في أن يتزوج واحدة ممن في نفس مستواه، ورأيا منه رد فعل غاضب وشراسة لم يعهداه  فيه من قبل وهو الابن البار المطيع، حتى رضخا في النهاية لرغبته ، وفرض عليهما احترامها محذرًا بعدم المساس بها وبكرامتها، لكن خوفه عليها من أهله جعله يقوم بتأمين مستقبلها قبل زواجهما، فاشترى لها بيتًا كتبه بأسمها ووضع لها رصيدًا بالبنك يضمن لها العيش بحياة كريمة ..

 أخبرته مرارًا إن كل ذلك غير مهم، فالأهم هو وجودها بقربه والهناء بالعيش بجواره.
 وكلما قالت له ذلك كان يحتضنها بحنو الأب الذى حرمت منه، قائلًا: أنتِ لا تعرفين ماذا يخبئ لنا الغد.
........

ما أجمله  زفاف!  تحدث عنه القاصى والدانى، فالفخامة أبسط وصف له، بدت فيه كإحدى تلك الأميرات التي قرأت عنهم بالقصص الخيالية والتي تزوجت فارس الأحلام، وكان كذلك بالفعل بالنسبة لها.
ثم سافرا بعد ذلك مباشرة إلى باريس حيث قضيا أسبوع العسل بين ربوع تلك المدينة الساحرة، لتعيش أجمل أيام حياتها والتي لم تعش أجمل منها بعد ذلك..

.......
ابتسمت بخجل وتذكرت قبلاته وأحضانه ومداعباته لها، فلم يكن يعاملها إلا كملكة متوجة تشعر في وجوده بالزهو ، فهي فتاة متوسطة الحال عاشت حياة عادية مع أمها وأخويها بعدما تركهم أبوها ليتزوج بأخرى، وانكبت الأم الصبورة على تربية أبنائها.

 قصة مكررة بالمجتمع لم يغير أحداثها إلا حظها السعيد الذي حسدها عليه الكثيرون بارتباطها بذلك الثرى الوسيم زميل الدراسة، حيث تبادل الجميع اتهامها بالماكرة التى اوقعته بين براثن شباكها والزواج منه..

مرت السنة الأولى من الزواج سريعًا كلمح البصر، فسهام الحاسدين أشد قوة من حبهما، حيث غدرت بهما الحياة وطعنت قلبها وقتلتها عندما فقدته لتموت وهى على قيد الحياة ولم تجنِ إلا نظرات الاغتباط من حولها…فكيف لبشر تنازعهم غرائزهم يفهموا أن فى عشرة سنة  واحدة وجدت حياة سنين؟!
.........................
بكت على الشاطئ بكاءًا حارًا وتمسكت بشالها وهى تتذكر حبيبها الغارق فى دمائه، وظلت تهتز وترتجف فمازالت ملامحه النائمة نومًا أبديًا محفورة بمخيلتها.

صرخت صرخة شقت بها ظلام الليل، صرخت كما لم تصرخ من قبل، ثم قامت واقفة لتدخل ذلك الشاليه الذى لا يمكن تبين حجراته إلا من ضوء خافت ينير أحد جنباته والمسلط على برواز مذهب يحتوى صورة قلب لم يعرف إلا الحب لكل من حوله .. 

جلست على ذلك الكرسي الموضوع بجوار صورة حبيبها وهى تسأله بصوت خافت  باكٍ متقطع لماذا تركها وحيدة ؟ ومتى ستلحق به ؟ كم تتمنى الموت كل لحظة ولكن دائمًا ما تجرى الرياح بما لا تشتهى السفن ...
......................

مضى العمر ببطء شديد وهى لا تزال تثابر على زيارة شاطىء غرامهما وأماكنهم المفضلة  وخلف زجاج إحدي تلك الأماكن امتدت يداها المرتعشتان إلى حقيبتها لتخرج صورة قديمة مهترئة،  وهى تقربها ببطء شديد إلى شفتيها المكرمشتين مقبلًة إياها في عشق غريب، مما دعى أحد الجرسونات حديثى العهد بالمكان ليسألها بفضول أهو ابنها المسافر بعيدًا، لتجاوبه بالإيماء موافقه وهى تقوم مستندة على عصاها العاجى … لتسير مسرعة بصعوبة وبخطى مرتعشة هربًا من تطفله كى تلحق موعد فيلمهما المفضل.