الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أحمد شيخو يكتب: إشكالية الدولة القومية وثقافة المنطقة

صدى البلد

ونحن على عتبة مئة سنة من اتفاقيات القوى المركزية العالمية حينها مثل اتفاقيتي القاهرة 1921م ولوزان 1923م وغيرهم، لنسأل أين وصلنا بعد مئة عام من تقسيم المنطقة والاعتداء على ثقافة المنطقة وقيمها وتنوع وتعدد الحياة واختلاف الألوان فيها، ماذا كسبت شعوبنا؟ من يتحمل مسؤولية الصراعات والأزمات والفوضى والمصائب في البنى الاجتماعية التي نعيشها؟ لماذا عشنا في المنطقة كشعوب ومجتمعات منذ ملايين السنيين ولم نصل أبدأً إلى ما نعيشه الأن من انعدام الإنسانية وفقدان الضمير وضعف الأخلاق وغياب الديمقراطية والحرية ورفض العيش المشترك، هل السبب هو منطق وفكر وذهنية وهيمنة القوى السياسية التي توهمت أنها تدير دفت البلدان في المنطقة، ولكنهم لم يتعدوا كونهم فقط أدوات للقوى الهيمنة العالمية ولمشاريعهم في المنطقة.
 نجد أن ما تم فرضه على المنطقة من استعمار مباشر وثم غير مباشر كان عبر رؤى فكرية استشراقية ونظم للإدارة وأشكال من الدول والسلطات والتيارات السياسية وحتى المعارضات وإن اختلف مسمياتها بين الجمهورية والملكية والإسلامية والقومية واليسارية واليمنية، لكن معظمها من اختلاق وإبداع القوى العالمية المهيمنة وأفكارها واستراتيجياتها لخدمة مصالحها وهيمنتها حتى لو أدعت الكثير من السلطات والتيارات السياسية في المنطقة غير ذلك وأنهم غير تابعين ومستقلين، لكن في الحقيقة هم ايضًا وبرامجهم السياسية وسلوكهم بعد الوصول بهم إلى سدة الحكم في المنطقة كانوا مراحل جديدة من الاستعمار والتبعية والعمالة للخارج وللقوى المهيمنة ضد ثقافة المنطقة وإرادة شعوبها ومجتمعاتها وإن باشكال أقل ظهورًا وأكثر خبثًا وخداعًا. لكن وضع المنطقة الحالي والإبادات والمجازر الماثلة أمامنا يؤكد ما تم ذكره، وإن كان هناك حقيقة يمكننا البدء والبناء عليها فهي المجتمعات والميادين الإجتماعية التي حافظت على كينوناتها وماهياتها الإنسانية والأخلاقية ولو بالحدود الدنيا رغم كل ما تم من محاولات القضاء عليها وإخراجها من ماهيتها ووظيفتها وإضعافها لتحقيق نهب وسلب كد وجهد الإنسان واستغلال الطبيعة والحياة لتحقيق الربح الأعظمي للنظام العالمي الرأسمالي.

لنحاول فهم أهم الأداة التي طبقها الإستعمار في المئة السنة الأخيرة في منطقتنا وهي الدولة القومية.

 يؤدي استقرار المجموعات البشرية على أرض ما، وتفاعل المكان وإندماجه مع الثقافة المادية والمعنوية إلى تكون مصطلح الوطن. هذا وتؤثر عمليات الاستقرار الطويلة المدى بنحو مهم في تكوينات الهوية أيضًا على شكل قبائل وأقوام وأمم وشعوب.
وعليه فإن مصطلح الوطن بهذا المعنى أمرًا لا غنى عنه بالنسبة للمجتمعات لأنه يجسد حالة طبيعية وجودية. فإلى جانب عدم وجود حدود صارمة في ظاهرة الوطن، فإن اللغة والثقافة المشتركتين والسوق الاقتصادية والاحتياجات المتبادلة تجعل مفهوم الحدود مرنًا. لكن لم يعرف المجتمع البشري طيلة تدفقه حدودًا من نمط الدولة القومية. فهكذا حدود مخالفة لطبيعة الإنسان الثقافية وحتى للحقائق العلمية التي تؤكدها مبادئ فيزياء الكم في التأثير المتبادل عدم وجود الفصل المطلق.
الطامة الكبرى تبدأ مع قيام النظام المهيمن (الرأسمالية العالمية) وأداتها وخليلتها الدولة القومية بشكل متداخل بإخضاع الوطن والمجتمع الذي يحتويه تحت هيمنتها ومحاولة تركيعهم. إذ كلما فرض مفهوم التجانس اللغوي والثقافي، كلما تحول الوطن والحدود إلى مكان مقيد واحتجاز مشدد للمجتمع. ولكن حدودًا صارمة كهذه لا ترسم لأجل الدول. بل أن صرامة وقطعية الحدود تمثل قوة نير العبودية المسلط على ذهن الإنسان وإرادته. وتعبر عن تحويل البلد إلى سجن كبير والسجان هو السلطة القومية. ويمكننا القول أن الحدود الفاصلة إلى هذه الدرجة تفيد باستملاك البشر، وتسخيرهم كما يراد، وتبضيعهم وتجييشهم والاعتداء على كرامتهم وإنسانيتهم. فمن دون إيجاد حدود من نمط الدولة القومية يستحيل نزع وفصل الأفراد عن المجتمع وتحويلهم إلى حثالات أو ناس لاحول ولا قوة لهم. ولا يمكن لهذه الوقائع أن تصبح ممكنة إلا بتديين وشرعنة "حدود الوطن المقدس" علمًا بأنها مناقضة لجوهر الأديان وللحقيقة الجغرافية وللطبيعة التفاعلية والتنوعية للمجتمعات البشرية.
 الصحيح والملاحظ على الأقل بعد مئة عام من عمر الدولة القومية في المنطقة أنها تعبر عن نظام تفاقمت فيه القضايا الإجتماعية إلى أقصى حد، بدلأً من صياغة الحلول الإجتماعية المناسبة، وليست كما يروج لها أنها الشكل الأساسي للتنمية والعدالة والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان بل هي إنكار لتلك القيم. وتتحمل مختلف التيارات الاشتراكية واليسارية مسؤولية كبيرة عن ذلك التحريف بقدر الليبراليين البرجوازيين على أقل تقدير وذلك بسبب نظرياتهم وبرامج تنظيماتهم التي شكلوها في هذه الوجهة. 
 ويتجسد صلب العلاقة بين الدولة القومية والرأسمالية العالمية في فتح البنية الإجتماعية والاقتصادية بمجملها على الاستغلال والتسلط، وبمنوال لا نظير له في مجرى التاريخ. حيث أن الدولة القومية بوصفها شكل التحول السلطوي والتحكمي الأقصى، بمقدورها جعل هذا الاستغلال ممكنًا.
ومثلما شرعنت أنظمة السلالات والإمبراطوريات والسلطنات نفسها واستغلالها في العصور الوسطى وقبلها الأولى بالميثولوجيات والأيدولوجيات الدينية، تم في مئة السنة الأخيرة ترسيخ شرعنة أنظمة الإستبداد والاستغلال الجديدة في عهد الحداثة بالتصورات الذهنية المتمركز والمتمحورة حول الدولة القومية. لو اردنا الدخول إلى الدول القومية في المنطقة سنجد:
 1_الإصرار على خلق التجانس وإيجاد مواطنون من نمط واحد، والعمل على تحويل الطبيعية الاجتماعية المتميزة بغناها الثقافي الشائك والمعقد والمتنوع إلى أقصاه إلى مواطنين متماثلين متجانسين، من الواضح أن مواطنة الحداثة والدولة القومية هذه تعبر عن الانتقال من العبودية الخاصة إلى عبودية الدولة. ذلك لا يمكن للنظام العالمي المهيمن (الحداثة الرأسمالية) من تحقيق الربح دون هذا النمط من جيش العبيد العصري. فعلى الرغم من كل تجارب التقديس، إلا أن الحقيقة الكامنة في مضمون المواطنة ودولة المواطنة المطروحة من قبل الدولة القومية للحفاظ على سلطتها، هي بناء عبودية عصرية منتجة للربح ومهيئة للاستغلال والقمع، ويقول القائد والمفكر عبد الله أوجلان المسجون منذ 22 سنة من قبل النظام العالمي المهيمن في تركيا أن "المجتمع الوطني المتجانس هو نتاج "مشروع الهندسة الاجتماعية" التي لا يمكن تخيل تحقيقها حتى ضمن أي نظام فرعوني في التاريخ".
2_ التعليم في نظام الدولة القومية في المنطقة عامل رئيسي في إيصال إشكالية المجتمع الوطني إلى أقصاها وبناء مواطن وموظف لدوام استمرار شبكة الدولة دون إعتبار لمصالح المجتمع. ويتم إتباع مركزية الدولة لإنتاج المواطن - العبد وهي على الأغلب تتم عبر الأطر الرسمية والمؤسسات من قبيل المدارس والثكنات والجوامع والكنائس والكنسيت. ذلك أن تنفيذ حالة النهب والسلب ممكن بتنميط هوية جميع المواطنين وإنشائها بنحو يتوافق ومآربها. ولا يمكن إدراك الأزمات في نظم التعليم المتردي عندنا من دون فهم العلاقة بين نوع التعليم وبناء الدولة القومية فهذه المؤسسات تنتج كم هائل من القضايا والتخبط وهذا بحد ذاته يعني إفلاس الذهنية وتدهور السلوك وحتى إنتاج أفراد من سياسيين وإعلاميين ومثقفين ونخب مختلفة و إنتهازيين مستعدين لبيع حتى أنفسهم وكرامتهم مقابل حفنة من الدولارات وبعض المناصب.  
3_ وجود البيروقراطية رغم كل الثورات التكنولوجية كقفص حديدي لتدجين المجتمع وترويضه ودفعه نحو تأمين الربح وهي العنصر الاصطناعي المشكل من قبل الدولة القومية كعمود فقري لها الذي يفتت الطبيعية الاجتماعية ويسرطنها. وهذه البيروقراطية المتضخمة على ظهر المجتمع كالورم، أداة مهمة للدولة القومية، ذلك أنها تؤدي دور الأداة الأساسية المسيرة للنظام والمؤمنة للربح سواءً في الدول التي يقال أنها إشتراكية أو شيوعية أو في النظم الليبرالية المستحدثة.
4_ تأطير المرأة ضمن أدوار وقوالب جاهزة والدفع بحريات زائفة وممارسة الذكورية في كافة ميادين الحياة، لأنه من دون عبودية المرأة واستغلالها لا فرصة لأي شكل عبودي في التطور والحياة في المجتمع. فكل أيدولوجيات السلطة والدولة تستقي أولى مناهلها من المواقف والسلوكيات الذكورية. وعبودية المرأة هي الحقل الإجتماعي الأعمق والمحجوب الذي طبقت عليه شتى أشكال العبودية والقمع والاستغلال. أنها الموضوع الشيئاني والأداتي الاجتماعي الذي جربت عليه جميع أشكال السلطة والدولة ورأته مصدرأ لها.  ونظام الحداثة الرأسمالي والدولة القومية هي المعبرة عن حاكمية الرجل وتأسسها أو مؤسستها.
إن الحياة نفسها تكتسب معناها بالتعدد والتنوع المتواصل والمجتمعات كحالة طبيعية للإنسان وتفاعلاته تجسد الهويات الحقيقة الواجبة صيانتها وحمايتها من فرض هويات وحدود وإرادات خارجية عليها دون إرادة أبنائها وثقافتها التاريخية الترا كمية. وتغدو الحدود السياسية الحالية المفروضة من خلال الاتفاقيات الاستعمارية قبل حوالي مئة سنة، تتصدر لائحة المخترعات الاجتماعية المتغيرة بأقصى سرعة، على الرغم من كل هذا التقديس لها. فحتى تخيل حدود الدول الحالية قبل قرن من الزمن أمر مستحيل. فتكريس المساحات المرسومة افتراضيًا، ونقشها إلى هذه الدرجة في أذهان المواطنين وكأنها موجودات مقدسة أزلية وسرمدية من خلق الله والرب ويقع واجب الطاعة العمياء لها، إنما يعني إنشاء أكبر القضايا وأكثرها تعقيدًا. مع العلم أن الإبادات وموت مئات الملايين من البشر وحالات التغيير الديمغرافي والتطهير العرقي كما فعلتها تركيا القومية الفاشية المستحدثة كنموذج فج وظاهر للدولة القومية العميلة للنظام الرأسمالي العالمي المهيمن والمعتدي على ثقافة المنطقة وشعوبها والمنفذة للإبادات والقتل بحق شعوب المنطقة ومجتمعاتها، وكذلك إبادة عدد لا يحصى من قيم الثقافة المادية والمعنوية في الحروب المخاضة من أجل حدود الدولة القومية في غضون مئة السنة الأخيرة، يبرهن على مدى تفاقم القضايا المفضى إليها وأهمية البحث عن الحلول للمنطقة إنطلاقًا من أخذ الدروس والعبر من حياتنا خلال مئة سنة الأخيرة.