الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. مصطفى عوض يكتب: «وثيقة الأخوة الإنسانية» أساسٌ للتعايش السلمي بين الحضارات

صدى البلد

 

الإنسان حر منذ ولادته إلى أن يموت، وقد قرر الإسلام هذا المبدأ ووضـع لـه الضمانات الكفيلة، والحرية أغلى شيء في حياة الناس، وعن طريقها يملك الإنسـان شخصـيته، ويثبت كيانه، وهي أكبر مظاهر الكرامة الإنسانية والطريـق إلـى الإيمـان الصـحيح.

 والتعايش معناه في اللغة: مأخوذ من (عايشه) يعني عاش معه، والعيش معناه الحياة، وهو العيش على هذه الأرض من بني آدم كافة دون تفريق بين إنسان وآخر، وتعني الاشتراك في الحياة على الألفة والمودة والرحمة، وقد ذكر القرآن الكريم العديد من الآيات التي تدعو الناس إلى التعايش السلمي ونبذ العنف والتطرف والإرهاب، فقال - تعالى - في محكم كتابه: "يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (سورة الحجرات: الآية رقم ١٣)

وقال أيضًا: "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (سورة الممتحنة: الآية رقم ٨)
وأتى رسول الله  فقرر هذا المبدأ الإنساني فقال : "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة" البخاري: كتاب الجهاد، (باب من قتل معاهدًا رقم الحديث 3166، ج4، ص99)

وقد قامت جميع الشرائع السماوية كلها على العدل والقسط بين الناس، فالعدالة شريعة لكل الأنبياء والمرسلين، وفى الشريعة الإسلامية تأكيد واضح على العدل والقسط، وبالعدالة قامت السماوات والأرض، وبها قامت الحياة الإنسانية فكان على كل تصرف الإنسان أن ينبني على العدل في محيط الوحدة الإنسانية، ووجب أن تكون الفروق الشخصية بمنأى عن محيط العدل، يستوى فيـه القـوي والضعيف، والغني والفقير، والقريب والبعيد، والمسلم وغير المسلم، فالعدالة الإسلامية عدالة مطلقة، فلا بد أن تقام ولو على النفس أو الوالـدين أو الأقربين وهى لازمة حال السلم، وواجبة وقت العداوة والحرب حيث قال تعالى: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"( سورة المائدة: الآية رقم ٨)

والأزهر الشريف على مر تاريخه الطويل يحمل عبء الدعوة إلى التعايش السلمي بين البشر على اختلاف عقيدتهم ومشاربهم، حتى أتى شيخ الأزهر فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الطيب والذي يحمل في قلبه وعقله منهج الوسطية والاعتدال، ويحاول أن يزرع في عقول أبناء الأزهر الشريف خاصة، وأبناء مصر عامة مبدأ التعايش السلمي؛ وقد دلل على ذلك بأحاديثه المتعددة، وعبر المؤتمرات التي عقدها الأزهر مع ممثلي مختلف الديانات والعقائد في العالم؛ لنبذ كل أشكال العنف والتطرف والإرهاب، والإبقاء على مبدأ الأخوة الإنسانية والتعايش السلمي.

وقد كلل شيخ الأزهر كل هذه المجهودات عن طريق توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية مع البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، والوثيقة تُعد بالفعل نتاج عمل مشترك، وحوارًا بناءً متواصلًا استمر لأكثر من عام ونصف بين الإمام الأكبر وبابا الفاتيكان، وتحمل رؤيتهما لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين أتباع الأديان، وللمكانة والدور الذي ينبغى للأديان أن تقوم به في هذا العالم. 

فهذه الوثيقة تدعو الناس إلى مبدأ واحد وهو أننا كلنا من أصل واحد، خلقنا رب واحد، نتساوى جميعًا في الحقوق والواجبات والحرية والكرامة الإنسانية، فعلى كل واحد أن يحترم الآخر من منطلق أنه إنسان بغض النظر عن عقيدته ودينه وثقافته وفكره، وتدعو إلى نبذ كل ما يؤدي إلى الفرقة والاختلاف والتنازع، فهناك قاسم مشترك بين الناس جميعًا وهي أنهم كلهم في الأخوة الإنسانية سواء.

فمن ضمن بنود وثيقة الأخوة الإنسانية: " باسمِ الله الَّذي خَلَقَ البَشَرَ جميعًا مُتَساوِين في الحُقُوقِ والواجباتِ والكَرامةِ، ودَعاهُم للعَيْشِ كإخوةٍ فيما بَيْنَهم ليُعَمِّروا الأرضَ، ويَنشُروا فيها قِيَمَ الخَيْرِ والمَحَبَّةِ والسَّلامِ".

وهذه الوثيقة الإنسانية تؤصل لمبدأ التعاون المشترك والتكافل بين أبناء الأصل الواحد في الإنسانية، فالغني يساعد الفقير ويعطف عليه ويشد من أزره، ويرفع عن كاهله المعاناة والضعف، والمقتدر والميسور في حاله يقف إلى جوار الفقير والضعيف والمسكين وصاحب الحاجة، فمن ضمن بنودها أيضًا: "باسمِ الفُقَراءِ والبُؤَساءِ والمَحرُومِينَ والمُهمَّشِينَ الَّذين أَمَرَ اللهُ بالإحسانِ إليهم ومَدِّ يَدِ العَوْنِ للتَّخفِيفِ عنهم، فرضًا على كُلِّ إنسانٍ لا سيَّما كُلِّ مُقتَدرٍ ومَيسُورٍ.

باسمِ الأيتامِ والأَرامِلِ، والمُهَجَّرينَ والنَّازِحِينَ من دِيارِهِم وأَوْطانِهم، وكُلِّ ضَحايا الحُرُوبِ والاضطِهادِ والظُّلْمِ، والمُستَضعَفِينَ والخائِفِينَ والأَسْرَى والمُعَذَّبِينَ في الأرضِ، دُونَ إقصاءٍ أو تمييزٍ".

وهذه الوثيقة تدعو إلى احترام النفس الإنسانية وتكريمها لا إزهاقها، وهي بذللك تتبنى مبدأ رب العزة  الذي دعا إلى احترام النفس الطاهرة وعدم إزهاقها فقال تعالى: "وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا" (سورة المائدة: الآية رقم ٣٢)
 حيث تنص الوثيقة على: " باسمِ النفسِ البَشَريَّةِ الطَّاهِرةِ التي حَرَّمَ اللهُ إزهاقَها، وأخبَرَ أنَّه مَن جَنَى على نَفْسٍ واحدةٍ فكأنَّه جَنَى على البَشَريَّةِ جَمْعاءَ، ومَنْ أَحْيَا نَفْسًا واحدةً فكَأنَّما أَحْيَا الناسَ جميعًا".

ومعلوم أن الإنسان في نظر الإسلام مُكرم بغض النظر عن أصله، ودينه، وعقيدته، وجنسه، ولونه، ومركزه الاجتماعي، حيث خلقه الله مكرمًا، ولا يملك أحدٌ أن ينزع منه هذه الكرامة التي منحه الله إياها، يستوي في هذا المسلم الذي يؤمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد  نبيًّا ورسولًا، مع غير المسلم من أهل الأديان الأخرى، أو من لا دين له، فالكرامة حق مشاع يشترك فيه الجميع دون استثناء، وهذا ما نسميه نحن ذروة التكريم وقمة التشريف.
وتأصيلًا لهذا المبدأ فقد أعطت الحضارة الإسلامية عبر عصورها المختلفة غير المسلمين حرية تامة في المجال الاجتماعي، بحيث تمتعوا بحقوق المواطنة في داخل حدود الدولة الإسلامية، وكانت العلاقات بين المسلمين وغيرهم يسودها روح الود والتسامح والتعايش إلا في القليل النادر من بعض الفترات والتي قد يحدث فيها بعض التعصب أو الخلاف بين الطرفين، ولكن السمة البارزة هي نبذ العنف والتطرف والكراهية، فقد سُمح لغير المسلمين بالتمتع بالحرية في المجال الاجتماعي داخل الدولة الإسلامية، بحيث يحل لهم تناول أطعمتهم الخاصة كلحم الخنزير وغيرها من الأطعمة، وشرب الخمر دون بيعها للمسلمين، وكانوا يلتزمون بذلك. (ابن سعد: الطبقات الكبرى، ج5, ص 283)
فالتسامح والتعايش السلمي هو مبدأ أصيل من مبادئ الحضارة الإنسانية عبر تاريخها الطويل، وعلى الناس أن تؤمن بهذه الأفكار التي تقيم الإنسانية وتبني الحضارة، وتنبذ التطرف والإرهاب، وتدعو إلى التعايش السلمي والتسامح الإنساني.