كنسمة هواء الربيع في وجودها، تشعر فقط بجمال روحها وخفتها ورقتها ولين قلبها، كالحرير لمسة يديها ناعمة وبسيطة، ملامحها المصرية الأصيلة وأخلاقها ومبادئها الصعيدية المبنية على العادات والتقاليد السامية،هكذا كانت ابنة مركز جرجا جنوبي محافظة سوهاج التي أغرم بها أحد زملائها بالجامعة، فقرر الزواج منها بعد محبة صامتة في قلب كل منهما حتى جمعهما بيت واحد تمتلئ أرجاؤه بالمحبة والود فيما بينهما، فيعيشان في سعادة عدة سنوات، حتى تأتي الطامة الكبرى لتُحاول إطفاء شمعة سعادتهما.
"آسف بس المدام عقيمة"، تلك الكلمات التي وقعت على مسمع الزوج الذي ما زال في منتصف العشرينات في العُمر كالصاعقة، فلا يدري ماذا يفعل أو ماذا يقول لوالدته التي تُريد أن تفرح بأحفادها منه، فهو نجلها المُدلل والأقرب إلى قلبها، دموع كالبحر غرقت بها الزوجة الحنونة.
فتح لها أحضانه ليحتويها بين ذراعيه مُطبطبًا على كتفيها مُطيبًا خاطرها، فيُنسيها أوجاعها عامًا وراء عام، حتى يأتي السُم من أهل الزوج فتكون الحماة كالحية تضرب بلسانها وتبخُ سُمها القاتل في حياتهما، "أنا عاوزه افرح لي بعيل منك قبل ما أموت.. اتجوز واحده شيالة تجيبلي أحفاد وتملى عليا البيت أطفال".
كانت تلك الكلمات تؤثر في نفس الزوجين اللذين اقتربا من أواخر العقد الثالث من العُمر، كجرح عميق لا يستطع الأطباء إلمامه، لتكون الضربة القاضية إجبار الشاب على الزواج من أخرى، فيترجى والدته أن تأخذ قسطًا من الصبر حتى يحاول مُعالجتها تارة أخرى وإن لم يكتب الله لها الشفاء فسيتزوج.
ليتفاجأ الجميع بعد شهر واحد من هذا الحديث بخبر لم يتوقعه أحدهم، "مبروك المدام حامل"، فيسعد الجميع وتأخذهم الفرحة والسرور تسعة أشهر، وتنظر الأم المُنتظرة إلى شكل بطنها الدائرية وتأخذ رأي والدة زوجها ومحبوبها الأول والأخير، "إيه رأيك يا أم الغالي حامل في ولد ولا بنت"، أيام قلائل على موعد الولادة، قلوبًا تنبض بالسرور وأخرى تنبض بالخوف خشية من اكتشاف حقيقة الأمر.
حتى جاء اليوم المُنتظر يوم أن يأتي الحفيد الذي انتظرته عائلة بأكملها، ليصطدم الجميع بفاجعة لم يتخيلها أحد وهي أن الجنين قد ولد ميتًا، ولم يكتب الله لهما الفرحة بوجوده ولو لبضع دقائق، صراخ ونحيب ودموع تنهمر من الحاضرين بأحد مستشفيات محافظة سوهاج، ليتفاجأ الأمن بخروج عدة أفراد وبيدهم رضيع ملفوف بقطعة قماش بيضاء من المؤكد أنها الكفن، فيوقفه أحدهم مُتسائلًا: "كيف تخرج بطفلك لاستكمال إجراءات دفنه دون اتخاذ الإجراءات اللازمة معه قبل ذلك؟".
اقرأ أيضا:
توتر الأب قليلًا لا يعلم ماذا يفعل، كاد أمرهما أن يُكتشف، فما الذي يستطع فعله حاليًا، فيأخذه أحد أفراد الأمن ليستفهم منه ماذا به ليُدرك أن ما بين يديه هو لعبة ملفوفة بالكفن وليس طفلًا، لم يكتب الله لزوجته الأمومة ولم يطاوعه قلبه على الزواج بأخرى، ولم يستطع فتح ذراعيه لاستقبال امرأة ثانية بين أحضانه، ولم تكن لديه القدرة على معصية والدته، فأكرمه عقله بفكرة جيدة إلى حد ما، وهي أن يكذب كذبة بيضاء تُنقذه من موقف محرج بين أقرب الناس إليه "زوجته ووالدته".
فيعيش الزوجان في كذبة طيلة التسعة أشهر الماضية، مُتحملين ضغط الأعصاب والتوترات التي كانت تنتابهما من وقت إلى آخر، لتنتهي الكذبة بدفن العروس اللعبة بدلًا من طفلهما الوهمي، ليختتم حديثه مع والدته قائلًا: "العيب مش من مراتي الحكاية وما فيها إن ابنك مش مكتوب له يبقى أب، أتمنى نقفل الموضوع ولحد هنا وكفاية كل شيء نصيب".
كان حب الزوج ذا الـ٢٩ عامًا، لزوجته الحنونة الذي لم ير في مثل جمالها وحنانها ولين قلبها وأخلاقها فتاة امرأة أبدًا، أكبر من حبه لأن يكون أبا، فقط كانت الوحيدة بينهن التي تخطفه ويعيش معها بخياله قبل حقيقته، هكذا هو الحب إذا حضر أباد كل العوائق وأزال المستحيلات.