الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الفن الهابط تنتجه أممٌ عليلة


من المعروف أن الفنون هي مرآة المجتمع، فالمجتمع الراقي ينتج فنا راقيا، والفنون كذلك هي قاطرة المجتمعات التي تأخذ بيدها للتطور والتقدم، ولعله من نافلة القول أن نذكر هنا أن عصر النهضة الأوربي هو عصر الفنون، وأن الفنانين الكبار في إيطاليا هم من مهدوا لظهور الفلاسفة ابتداء من اللحظة الحداثية الأولى التي تمثلت في ظهور ديكارت الذي يؤرخ به كلحظة أولى للحداثة، ذلك منذ أعلن عن الكوجيتو الشهير "أنا أفكر إذًا أنا موجود" الذي أعلن الانتصار للذات، باعتبارها ذات مفكرة، هذا التفكير الذي جعل العقل هو المركز، هذا الذي هو السمة الأولى والأهم لعصر الحداثة.

هذا الذي صاحب ثورة مادية هائلة كانت نتيجة لثورة فلكية ومن بعدها ثورة فيزيائية، ذلك الذي لم يكن ليحدث ما لم يكن هناك نهضة فنية سبقت كل ذلك.

إن الفن دائما هو المشجع للعقول والمحفز للخيال، فلا يمكن أن يكون هناك مجتمع خصب أو توجد بيئة مهيئة للابتكار ما لم يتمتع فنانو هذه البيئة ومبدعو ذلك الوطن بمواهب فذة من ناحية، وبتقدير من مجتمعاتهم من ناحية ثانية، وفوق هذا وذاك بحرية هي أقرب لأن تكون، إن لم تكن، حرية مطلقة من ناحية ثالثة، فما من مجتمع يحد من حرية مبدعيه ويتحصل على إنتاج فني راقٍ، وما من بيئة لا تشجع فنانيها  وأدباءها وتنتج ما يستحق أن يطلق عليه فنا، وما من أمة لا تهتم بالفن ومنتجيه كُتِبَ لها التقدم في أي مجال من مجالات الحياة.

إن أردت، عزيزي القارئ، أن تتعرف على حال أمة من الأمم، فما عليك إلا أن تنظر في نوع الفنون التي تشجع، والفنانين الذين يتبوؤون المكانة المرموقة فيها، ومَن مٍن هؤلاء المشتغلين بالفن الذين تخصص لهم المساحات وتفتح لهم القنوات، وتفرد لهم البرامج، فإن كان هذا المجتمع أو هذه الأمة تهتم بالرفيع من الفنون، وتخصص المساحات وتفتح القنوات للمبدعين الحقيقيين وتفرد البرامج للمواهب الفذة، فاعلم أنك أمام بيئة متحضرة ومجتمع راق، مؤهل لأن ينتج مشروعه الحضاري، ويسهم بسهم حقيقي في مسيرة الحضارة الإنسانية، أما إذا وجدت الساحة مليئة بالغث  ويُصَدّر هذا الغث باعتباره نوع من الإبداع، ووجدت البرامج تناقش التافه من الكتابات، والمساحات تفرد لما يخاطب الغرائز ويدغدغ المشاعر، فاعلم، دون كثير عناء، أنك أمام أمة عليلة، ومجتمع مريض، ودولة متخلفة، بينها وبين أن تنتح وتبدع مشروعا حضاريا مسافات بعيدة، وبينها وبين أن تسهم بسهم حقيقي في الحضارة الإنسانية آمادا طويلة.

طلب مني صديقي الدكتور جمال أبو بكر موسى أن أتناول الغناء في مصر ما بين الماضي والحاضر، مستشهدا بما يقدم الآن من غناء هابط على مستوى الحاضر، ومبرهنا على عصر العمالقة من المطربين: أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ على ماض فني رفيع راق رائع، وإني لأتفق معه في ذلك، أتفق أن عصر هؤلاء العمالقة كان عصر الازدهار في الغناء العربي الذي يمثله بكل فخر وبراعة الغناء المصري، هذا الذي لا يمكن أن نفصله عن ازدهار الفكر والأدب حيث ازدهرا على أيادٍ بارعة لمفكرين وأدباء عمالقة من مثل طه حسين وعباس العقاد ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهم، هذا الذي كان أيضا يعكس صورة المجتمع وهو يسعى لتقديم مشروع مصري وعربي نهضوي، تم إجهاضه، فلم يكتمل.

إننا لا يمكن أن نفصل الأنواع الفنية عن بعضها البعض، كما لا يمكن أن نفصل الفن عن العلوم الإنسانية ولا المادية، فكل هذه المجالات متداخلة بعضها في بعض، مهما بدا من تمايز شديد بينها، فالمدارس الفنية والمذاهب الأدبية ما هي إلا تعبير عن حاجة المجتمع، فيمكن أن تبتكر هذه المذاهب وتتكون تلك المدارس كمظهر من مظاهر اتجاه فلسفي، أو نتيجة لنظرية علمية، أو تماهيا مع رؤية كلية في عصر من العصور.

نعود لما يتم عرضه في مصر من فنون، ونأخذ أكثر الفنون التصاقا بالإنسان المصري وهو فن الغناء، هذا الفن الذي يمكن أن ينعكس فيه، على ما نزعم، المستوى الفني والثقافي الراهن، ولعله من المناسب هنا أن نقر أن ما يطلق عليه، مجازا، "فنا هابطا"، كان دائما متواجدا عبر العصور، وهو أيضا متواجد لدى أكثر الشعوب رقيا في الفن، وكان أيضا متواجدا في تلك الأيام التي عاش فيها أساطين الغناء العربي والمصري، ويمكننا أن نتذكر هنا مثالا لأغنية:
 "ارخى الستارة اللى فـريحنا
 لاحسن جيرانك تجرحنا

يا مبسوطين يا مزقططين
يا مفرفشين أوي ياحنا".

تلك التي كانت تغنيها سلطانة الطرب "منيرة المهدية" فما بالنا بغيرها من مطربين ومطربات درجة رابعة.

إن الذي نريد قوله أن الأغاني الهابطة كانت وستظل موجودة، ولكن الخطورة الحقيقية هي أن يصبح هذا النوع من الغناء أو الفن هو اللون السائد في المجتمع، ساعتها يكون هذا المجتمع يمر بأزمة عميقة. ولعله من المناسب هنا أن نشير إلى أن هناك العديد من الكتاب قد توقفوا عند ذلك، وأن هناك العديد من الأعمال السينمائية قد عالجت هذه القضية، ولربما كانت قصة بداية ونهاية، والتي تحولت لفيلم سينمائي، لأديبنا العالمي نجيب محفوظ والتي سطرها ليعالج حياة أسرة متوسطة الدخل فقدت عائلها في ثلاثينيات القرن العشرين حيث قدم فيها حسن الأخ الأكبر في الأسرة والذي كان بلطجيا وتاجر مخدرات و "مطرب بالقوة" تقدم بشكل أو بآخر معالجة لهذا النوع الهابط من الغناء، وربما كانت معالجة محمود أبو زيد في فيلم "الكيف" هي الأقرب إلى القراء الآن، حيث أبدع محمود أبو زيد في رسم شخصية الشاعر "ستاموني" الذي قدمه الفنان فؤاد خليل، كما كان مبدعا في رسم شخصية البطل "جمال أبو العزم / مزاجنجي" الذي لعب دوره النجم محمود عبد العزيز، لقد كانت هذه المعالجة ساخرة وعميقة بدرجة كبيرة.

إن ما نراه في المجتمع المصري، الذي نزعم أنه قادر على الإبداع، بل متمكن فيه، بما يمتلكه من مواهب حقيقية في كافة مناحي الإبداع، إن ما نراه فيه من تسليط الضوء على نوعية الأغاني المنحطة، والفنون الهابطة، لهو الخطورة بعينها، وإن فتح القنوات لمثل هذه الأغاني، وفرد المساحات لمن يقدمونها يضرب المجتمع في مقتل، حيث أنه يُنَحِّي جانبا المواهب الحقيقية، فيصيبها اليأس، ويغلق الطريق أمام الفن الرصين فلا يجد المواطن أمامه إلا الغث منه، هذا الغث الذي تأثيره أخطر آلاف المرات من خطر المخدرات حيث أنه يصيب الذوق العام إصابات بالغة قلما نجى من هذه الإصابات مجتمع تمكنت منه.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط