الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أحمد شيخو يكتب: الإيدولوجيا والتكنولوجيا بين التكامل والتصارع

صدى البلد


 
في ظل الثورة التكنولوجية الرابعة الجديدة بما تحفل به من الأتمتة (Automation )، والروبتة( Robotics)، والذكاء الاصطناعي، وانترنت الأشياء، وثورة المعلومات، والحقيقة الافتراضية أو اللاحقيقة الإفتراضة، وثورة الجينات والبيوتكنولوجيا؟
و في ظل نظام الهيمنة العالمية الحالي (الحداثة الرأسمالية) و معها مئات ملايين "فوائض الجنس البشري"؛ وانتشار الأوبئة والأمراض المجسدة لطبيعة النظام القائم وثقافته كما كورونا،  وتعاظم قضايا الإرهاب المفتعل وانهيار كل أو معظم قيم الإستشراقية  الغريبة عن المنطقة مع حالة الأزمة  للنظام المهيمن العالمي، و محاولات تمزّيق أنسجة المجتمعات والشعوب والمنطقة، وترنّح مفاهيم القومية بين الفاشية والفشل والفوضى والمصبحة على شفير الهاوية  والإنتهاء مع حرب الخليج الثانية، ومعها مفاهيم الهوية الغريبة والمخترعة على حساب الهويات الاصلية والمجتمعية الاساسية،  ومع تقلص فوارق  الأمنكة والأزمنة، وإنتشار الفضاءات الإفتراضية واستراتيجيات الأمن القومي والأقتصاد السياسي.
أين هي القوة الأساسية التي تشرعن النظام وتعطيه الإستمرارية  ودوام الهيمنة بالرغم من أزماته؟ وما وضع  ثنائية الروح والجسد لأي موجود هل من الممكن تطبيقها على ماذكرنا، هل تم تحويل التراكم التاريخي الإنساني إلى مجرد مطلق و أرقام ومادة بدون جانب روحي وخصوصًا في ظل إنهيار معظم الأفكار المطلقية والأحادية  والمادية فقط؟
ترى أي يكمن دور الأيدولوجيا ومنطق الأفكار ونسقه في إنتاج كل هذه التكنولوجيا و اللاحياة الرقمية  وهل تم تجاوز القوى التقليدية وكذلك المجتمعية في مطالبات الحرية والديمقراطية والعدل أو هل يجب تجاوزها وخصوصًا إذا علمنا الأنباء عن قرب إحالة أدوات الحرب الحديثة، من الدبابة والطائرة والصواريخ وحاملات الطائرات و"الجندي الشجاع"، وحتى الأسلحة النووية، إلى رفوف التاريخ، و أخذ حلول تكنولوجيا أدوات "الحرب ما بعد الحديثة" مكانها: الأسلحة السيبرانية والإعلامية المستندة إلى الذكاء الاصطناعي، والعقول الالكترونية، والجنود الآليون، والبشر الذين ستحوّلهم ثورة البيوتكنولوجيا إلى "مخلوقات زومبية"(جثث وأموات يسيرون على قدمين بلا مشاعر او أحاسيس أو وعي) ويكونون بمثابة أسلحة دمار موجّهة، من خلال زرع رقاقات صغيرة في أدمغتهم أو أجسامهم؟
هل يمكننا أن نعتبر أن الحالة الرقمية والأفتراضية مرحلة جديدة من نظم الهيمنة  والسلطة ورأس المال والتجاوز على الإنسان والمجتمعات وفقدان الروح، هل  يمكننا أن نعتبر هذه الحالة التكنولوجيا هي أيدولوجيا جديدة، أم هل يمكننا أن نقول أنها حالة لبحث الإنسان عن الحرية في ظل نظم الإستعباد للإنسان. كون أي موجود مادام موجود هو في حالة بحث وحركة عن الحرية. لكن كيف يكننا أن نقبل هذا الفصل بين الذات والموضوع الذي أثبتت نظريات الفيزياء الحديثة الكمية في خطأها، أين تكمن القيمة هل في الوجود أم في دوره وكيفية عمله أو إستخدامه. 

لنستعرض الأيدولوجيا تلك القوة التي كانت لها دور الفصل في بناء الحضارات عبر التاريخ في مختلف أصقاع العالم  وكذلك دورها في البناء الإنساني والأخلاقي والسياسي المجتمعي لما لها من قوة دفع وتشجيع وشرعنة السلوك مهما كان خيرًا أو شرًا.

على الرغم من أن المفهوم و الحالة الأيدولوجيا قديمة ومع الوجود لكنها تطورت مع السومريين وترافق  كجانب روحي ومعنوي مع الجانب المادي والإقتصادي للحياة، لكن الفيلسوف الفرنسي ( أنطوان ديستو دو تراسي) وفي عصر التنوير الفرنسي وضع مصطلح الإيدولوجيا في كتابه( عناصر الأيدولوجيا).
 الأيدولوجيا كلمة يونانية وتقسم إلى قسمين أيديا(فكرة) ولوغوس(علم)،  لكن من التعريفات المتكاملة يمكننا أن نقول أنها النسق الكلي للأفكار والمعتقدات والإتجاهات الكامنة في الأنماط السلوكية المعينة. وهي تساعد في تفسير الأسس الأخلاقية للفعل الواقعي وتعمل على توجيهه.  وهي تملك المقدرة على تبرير السلوك الشخصي، وإضفاء المشروعية على النظام القائم والدفاع عنه، مع العلم أنها أصبحت نسقًا قابلا لتغير استجابة للظروف والتغيرات المستجدة، على الصعيد المحلي والإقليمي والعالمي.
ويمكننا أن نعتبر الأيدولوجيا قضية مثيرة إلى حد كبير في كافة مراحل التاريخ وحتى يومًا. والكلمة بالذات تعني منطق الأفكار فالمجتمع قابل بمنطق أفكاره إلى اتخاذ ملامحه والتحرير وتفعيل أنسجته بوصفه طبيعة مرنة ومطاوعة للغاية. إلا أنه بخاصيته هذه ميال إلى الاستعباد أيضًا وقبول الذل والخضوع وكأنه عمل نبيل ومقبول وجديد يؤدي إلى مكان متصور محقق للأمال ومخلص من الأزمات. وكون الأيدولوجية مفتاح حل القضية أو منبعها، هو أمر متعلق ببنيتها المركبة.
 يعرف الإيدولوجية بأنها قوة الثقافة المعنوية وقدرتها وهي ترتبط بمقدار كبير بالذهنية لكنها تتميز عنها وتخص من الأحياء بالمجتمع البشري، ووظيفتها الأساسية كانت ومازالت هي تنظيم الحياة وإضفاء المعاني عليها. فبدون هذه المعاني والترتيبات. لايمكن للمجتمع أن يصمد، بل يسقط في وضع الذهول والجثة الهامدة.

تم تشيد الحضارات في المنطقة والعالم على الدوام استنادًا إلى قوتين أساسيتن هما القوة المادية وأهمها الاقتصادية والقوة المعنوية وأهمها الإيدولوجية. لقد أدت الإيدولوجيات دورًا عظيمًا في حضارات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا . والحضارة ذاتها تدين بالكثير من الفضل إلى إبداعات الكهنة السومريين الميثولوجية. ومجمع الكهنة حينها وفيما بعد قد أثر في جميع الأديان. وقد قامت الملكية والسلالة كنظم تحكم وسيطرة ونهب  المتناميتان كوظيفة أساسية لأيدولوجيتهما في تقديم نفسيهما وذاتها كإله والسمو بذاتهما رمزيًا وتصوريًا،. أي أن الملك الذي على الأرض قد عكس إلى السماوات كتصورات إلهية، ومن وقتها  الفلسفات والعلوم والفنون والأديان في بحث دائم عن تلك الآلهة.  و قد تمكنوا  من العثور على جانب من عالم الحقائق وجانب آخر من الحقائق الخيالية والمحرفة والمضللة.

و من الهام في منطقتنا(الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) هو رصد كيفية تحول الأيدولوجية الميثولوجية ألى أيدولوجيا دينية وتحولها إلى أيدولوجيا فلسفية، وأخيرًا إلى نظريات علمية و حتى إلى نهضة و ثورات صناعية بعد إنزياح الهيمنة العالمية من المنطقة إلى أوربا الغربية. وكذلك العثور على ماهية عالم القضايا المادية المقابلة لها، واقتفاء أثرها. فقضايا الحياة الاقتصادية والاجتماعية تجد مقابلها في الأيدولوجيا دون شك، سواء بشكل حقيقي أم محرف. فمؤسسات السلطة والدولة والسلالة تنشئ وتقدم ذاتها على شكل ألوهيات كنموذج مثالي جدًا في عالم الأيدولوجيا. ولو صيغت التحليلات الإيدولوجية من هذه الجوانب، فسيكون بلوغ معرفة وإدراك أفضل بحق المجتمع امرا ممكنًا. ذلك أن عالم جميع أديان وألهة العصور القديمة والوسطى مشحون بأثار الانعكاس والتشريع لعالم الهرميات والسلالات والسلطات والدول المتصاعدة وأصحاب رؤوس الأموال. فالقضايا والنزاعات القائمة فيما بينها تعاش كما هي في أثارها أيضًا. وبقدر مايعد الأبعاد والأنعكاسات والميدان الأيدولوجي ضروريًا لأجل فهم متكامل لأبعاد وميادين القضايا المادية للحياة، فالعكس ايضًا ضروري. وبمقدار الفصل بينهما علينا البحث دائما عن التفاعل و الروابط التي بينهما أيضًا.
لقد كانت القوى السلطوية التي أنشئت الحضارات مدركة للطابع التصوري والخيالي للأيدولوجيا. فلدى عرضها هذا العالم الخيالي أمام عالم العبيد على شكل حقائق، كانت وتؤمن تبعية و تطويع العبيد وترويضهم وتكبح وتوجه رغباتهم في آن معًا، وتأمل في إلهائهم وتسليتهم بالتصور الذي أسمته بالدنيا الأخرة أو بالحياة الثانية. وبالتالي فهذا الوضع كان يفيد بتحويل عالم أيدولوجي إشكالي للغاية إلى تقليد راسخ لايتزحزح وبذلك حتى أصبح الباحثين عن الحقيقية والحرية يتبعون وينهلون من تلك التقاليد وإن باساليب وأهداف مختلفة. ووجود تاريخ المدنية والحضارات والسلطات  وكذالك حركة المجتمعات ومن هم خارج السلطة  دومًا تحت ظلال الأديان والآلهة وأخذ الشرعيات منهم أو إستغلالهم، إنما على علاقة وثيقة بهذا الواقع.
تصبح القضايا الإجتماعية المتفاقمة قضايا أيدولوجية في هذا الاتجاه في راهننا أيضًا. ربما الأمر كذلك بدفع من الإيمان بإمكانية حلها هكذا بسهولة أكبر أو إنعدام الحلول للأزمات وكذلك لحالات الفراغ الفكرية والسياسية وشلل العالم المعنوي للإنسان من كثرة قصف النظام العالمي وحداثته(ثقافته) الإستهلاكية والإستشراقية في المنطقة. فإنتعاش الأيدولوجية الإسلامية يعكس حضور القضايا الاجتماعية المتزايد. أما عجز أيدولوجيات الحداثة عن التحول إلى أداة حل. فينبع من عجزها عن تشكيل الأواصر الواقعية مع القضايا الاجتماعية. كما أن الفشل في الأيدولوجيات، سواء التقليدية منها (الدينية) أم الحداثوية ( الليبرالية، القوموية، الاشتراكية وغيرها) معني بعدم عكسها السليم للقضايا الاجتماعية. بالتالي فالحل بنمطيه التطوري التدريجي والثوري يفرض عيش الصواب، قولًا كان أم عملًا.

وعليه تبقى للحياة وللمجتمع البشري جانبان أو قوتان رئسيتان هما المعنوية والمادية وإن تعددت وأختلفت  أشكالها وصورها وألوانها وأحيانًا دمجهم في إبداعات وأخترعات الإنسان التكنولوجية والذكائية ومن الممكن أن نصف كل القوتان كفرعين وجانبين لأي قوة جديدة أو نماذج أنماط أو سلوكيات للحياة ناتجة عن التفاعلات المختلفة . ولن يستطيع أحد تحقيق الفصل بين الروح والجسد
مادام هناك استمرارية، وتبقى الكثير من التنظيرات والتشدقات للبرجوازيين باهمية جانب واحد والقول بموت الإيدولوجيا هراء ومحاولة لقلب الحقائق. وتبقى الإيدولوجيا والتكنولوجيا كقوتين في حالة تفاعل وتبادل دائمة وقول أن زمن الأيدولوجيات ولت وذهبت هي بحد ذاتها إيدولوجيا لإعطاء الشرعية لعمل وسلوك ما.