الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أصحاب الكهف الأفلاطوني!


يظل الإنسان، أي إنسان، حبيس تلك الأفكار والمعتقدات التي شب عليها إلى أن ينظر في العالم ويتأمله بعمق، في محاولة، يجب أن تظل متجددة، منه لسبر غور هذا الكون الممتد في الآفاق إلى مالا نهاية، والممتد في الزمن إلى ١٣.٨ مليار عام منذ انطلقت الشرارة الأولى للانفجار العظيم.


ولا يمكن لإنسان أن يتحرر من تلك الأفكار التي تم تلقينه إياها إلا حينما يدرك أنه لا يوجد هناك ما هو فوق التفكّر والتأمّل، وأن تلك الفكرة، أية فكرة، قابلة للتغيّر والتحول، طالما لم يكن هناك ما يجعلها فكرة مطلقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، لأن انغلاق العقل على ثوابت مطلقة يجعل هذا الشخص صاحب هذا العقل أسيرا لهذه الأفكار الثوابت، هذا الذي يعميه عن حقائق تتجدد كل يوم، فالحقيقة لا تظل دوما حقيقة! ولعل ما كان يعتقده أسلافنا في الماضي من وجود عفاريت أو شياطين تسكن وادي عبقر تتلبس هؤلاء المبدعين من شعراء العرب، لهو دليل من بين أدلة هائلة متعددة ومتنوعة على تغير المفاهيم بل والحقائق من عصر إلى عصر ومن زمن إلى زمن، فليس بعيدا عن عصرنا الراهن ما كان أسلافنا، أيضا، يعتبرونه حقيقة ثابتة من أن الأرض هي مركز الكون فتغيرت وتبدلت تلك الحقيقة، فلم تعد الأرض أرضا بمعناها القديم بل أصبحت الأرض أيضا سماء، حيث عَلِمْنا الآن حقيقة أخرى وهي أن الأرض تسير في مدار هي الأخرى مثل غيرها من الكواكب والنجوم حول النجم الأكبر وهو الشمس، وأحسب أننا لا نبعد بعيدا في الزمان حينما نرى أن حقيقة الأرض المسطحة التي كان يؤمن به الإنسان قد تبدلّت وتحولّت وتغيرّت لنعلم حقيقة أخرى وهي أن الأرض كروي. "إن شكل كوكب الأرض قريب جدًا من الشكل الكروي المفلطح، فهي جسم كروي مفلطح عند القطبيين، ومنبعج عند خط الاستواء".


إنه ليس هناك حقيقة ثابتة يقر بها العلم إقرارا لا يأتيها الباطل من خلفها أو من بين يديها. هذا الذي يدعو العقول لتظل دائما منفتحة متقبلة للجديد من الفكر بل أيضا بالتماس الأعذار للمخالفين لما يعتقدون من رأي وفكر.


إن أولى الخطوات في الطريق الصحيح هو أن يدرك الإنسان محدودية إدراكه، وهنا فقط يمكن أن يستمر في التأمل والتفكّر، إنه السعي الدائم للوصول إلى رؤية العالم، كما هو لا كما يعتقده ويظنه ويحسبه، كما كان الشأن مع أصحاب كهف أفلاطون الذين ظلوا في كهف منذ ولادتهم مقيدين من أيديهم وأرجلهم ولا يستطيعون النظر إلا في حائط مواجه لهم، ولم يكن في هذا الكهف إلا كُوَّة صغيرة ينبعث منها ضوء لنار خافتة هي المصدر الوحيد للإضاءة فيه، هذا الضوء الذي يعكس - حينما يتم اعتراضه - صورا للحراس وهم يحملون ويسيّرون نماذج مختلفة لحيوانات ونباتات وغيرها من الأشياء التي تظل جيئة وذهابا، فيرى هؤلاء المساجين ظلالها المشوهة المنعكسة على الحائط، والتي كان يتصادف مع رؤيتهم لخيالات تلك المخلوقات أن يستمعوا لأصوات كانت تصدر في خارج الكهف فظنوا أن هذا الصوت يصدر عن تلك الظلال.


ولعدم معرفتهم بحقيقة هذه الأشياء، اعتقدوا أنها حقائق واقعية، ومن ثم حاولوا إيجاد تفسيرات لها، وفي تفسير هذه الخيالات وضعوا الفرضيات ثم النظريات لتفسير هذا العالم الذي يظهر لهم، ومن ثم أوجدوا منظومة معتقدات ترسخت يوما بعد يوم، بوصفها حقائق يقينية مطلقة.


وفي يوم ما، استطاع أحد هؤلاء المحبوسين في الكهف الخروج منه وفي الخارج رأى الواقع كما هو وعلم حقيقة مصدر هذه الظلال المشوهة، بعدما رأى العالم على حقيقته، وتعرف على أشيائه فأدرك بعد هذه الرحلة الفكرية أن ما كان يعتبره حقيقة ما هو إلا وهم وخداع، وأن حياته السابقة كانت بدون أي جدوى أو معنى، فعاد للكهف ليخبر زملاءه بما رأى ويعرفهم بالحقيقة بهدف تحريرهم، فماذا كانت النتيجة؟


لقد سخروا منه، بل اتهموه بالجنون، واعتبروا أنه كما أن الرحلة التي قام بها خارج الكهف قد أضرت بعينيه، لأنه لم يعد يستطيع الرؤية في ظلام الكهف من جديد، وما عاد يرى الأشياء كما كانت، قد أضرت أيضا بعقله، ومن ثمّ لابد لهم ألا يأخذوا بما يقول ويغادروا الكهف، ورفضوا أن يفك ذلك الرجل المستنير قيودهم، التي أصبحت جزءا من تكوينهم.


وما كان منهم إلا أن رفضوا ما يقوله لهم بل اتهموه بالكذب والتجديف والجنون هذا الذي دفعهم في نهاية المطاف إلى أن يقتلوه دون شعور بأي نوع من الأسى أو بالذنب، وما ذلك إلا ليستريحوا منه ويريحوا أنفسهم عناء تفهّم وتقبّل حقيقة لا تتناسب مع معتقداهم وقناعاتهم تلك التي بنوها على وهم وظلال مشوهة تلك التي عادوا مرة أخرى لمراقبتها مفضلين الاستمرار في قيودهم ووهمهم عن التحرر ومعرفة الحقيقة.


نعم نعلم أن أفلاطون كان يقصد بتلك الأمثولة الرمزية عدم الوثوق في الحواس، وأن العقل وحده القادر على الحقيقة ليؤكد على صحة مذهبه الفلسفي المثالي، ولكن يمكن كذلك أن ترمز هذه القصة الأفلاطونية إلى مأساة المستنير في كل العصور، والذي ربما يكون هو هنا أستاذه سقراط، الذي أعدم لأنه كان يسعى لتحرير المجتمع من المعتقدات البالية والخرافات.


إن هذا المثال يخبرنا أن العالم هو أكبر وأرحب من أي كهف وجدنا أنفسنا قابعين فيه، وأنه يمكن لهذا الإنسان الذي يستطيع التخلص من هؤلاء الحراس الذين مهمتهم ضمان استمرار سجنه في هذا الكهف، أن يقارب الأمور وينظر إليها من عدة زوايا عن تلك التي اعتاد عليها، وساعتها يمكنه أن يعذر الآخرين، ويتقبل وجهات النظر المختلفة، لأنه ببساطة سيدرك أن كل الأمور نسبية، وأن كل إنسان في النهاية هو مثله نتيجة بيئة ومجتمع وأفكار وثقافة ومعتقدات وموروثات جعلت له كهفا خاصا به، كما بنيت أفكار بيئتنا وثقافتنا ومسلماتنا ومعتقداتنا هذا الكهف الذي نعيش فيه، فإذا ما تقبلنا هذه الحقيقة كما هي، فهذا حتما سيساعد على تقبل الرأي الآخر والفكر المختلف أو في أسوأ الأحوال تفهمه واحترامه.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط