تركيا أرسلت حملات تنقيب متتالية إلى المياه الاقتصادية لليونان وقبرص
الخط الأحمر المصري في ليبيا يحرم أردوغان من موطئ قدمه المنشود جنوب المتوسط
إقليم ناجورنو كاراباخ مسرح جديد للتمدد الاستعماري التركي
الولايات المتحدة تستبعد تركيا من المشاركة في برنامج المقاتلة إف-35 وتعاقب صناعتها الدفاعية
ماكرون يقود الجهود الأوروبية لصد الأطماع التركية في شرق المتوسط
عام آخر يشرف على نهايته، ويكاد لا يكون هناك جديد يُقال عن تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، الذي جعل من بلاده أقرب إلى أزمة مزمنة منها إلى دولة طبيعية. لم يتوقع أحد على كل حال أن يحمل العام 2020 مفاجأة بشأن سلوك الرجل ونظامه المصفى من كل صوت معارض أو مختلف أو عاقل.
مثل العام الماضي والأعوام قبله، استمر أردوغان في بناء نظامه ونسج علاقاته الداخلية والخارجية حول مفهوم (الأزمة) المركزي، فمن خلال الأزمات وحدها يمكن لنظام من عينة نظام أردوغان أن يخلق فرصة للبقاء والاستمرار.
ويخوض نظام أردوغان سلسلة من المواجهات التي لا يمكن الانتصار فيها ضد أعداء صنع عداوتهم بنفسه، في منطقة جغرافية واسعة النطاق، تمتد من ليبيا إلى سوريا، ويصطدم بقوى إقليمية ودولية لا قبل له بمقارعتها فرادى أو مجتمعين، في مقدمتهم مصر والسعودية والإمارات واليونان وفرنسا وروسيا، فضلًا عن أطراف وفاعلين أصغر، في حين تظل قطر هي الداعم الثابت الوحيد لأردوغان، والتي تواصل ضخ الأموال في الاقتصاد التركي المتعثر بطرق متعددة.
في شرق المتوسط، أرسلت تركيا حملة تلو الأخرى للتنقيب عن الغاز الطبيعي، في مناطق تدخل ضمن نطاق المياه الاقتصادية لليونان وقبرص، ضاربة عرض الحائط بمبادئ القانون الدولي للبحار وسيادة الدول، وقبل ذلك مبادئ حسن الجوار.
وبهذه الاستفزازات المتتالية في شرق المتوسط، جرّت تركيا على نفسها عداء الاتحاد الأوروبي، فمن وجهة نظر الأخير لا يُعد التعدي التركي على المياه الاقتصادية لليونان وقبرص صراع حدود بين بلدين جارين، وإنما اعتداء من دولة على حقوق دولتين عضوين بالاتحاد الأوروبي، يستلزم موقفًا موحدًا لردعه.
ورطت هذه العربدة التركية في شرق المتوسط أردوغان في تدخل آخر غير بعيد، في ليبيا هذه المرة، وفي سبيل تأمين موطئ قدم لأنقرة على الشاطئ الجنوبي لحوض المتوسط، واصل أردوغان دعم مليشيات حكومة الوفاق في طرابلس الموالية له بالمقام الأول.
وبجانب تأمين موطئ قدم تركي على شواطئ المتوسط الأفريقية، بدا تدخل تركيا في ليبيا رد فعل عصبيًا هستيريًا ضد تحالف يتشكل بين دول شرق المتوسط، وحجر الزاوية فيه العلاقات المميزة التي تجمع مصر واليونان وقبرص، ومع أن هذا التحالف ذا طابع اقتصادي بالأساس، وغرضه تنظيم استغلال ثروات شرق المتوسط بالتوافق والتعاون، ترى تركيا فيه تهديدًا أمنيًا لمصالحها، بالنظر إلى طبيعة علاقاتها العدائية مع كل طرف من أطراف التحالف على حدة، وأنقرة تدرك جيدًا أن نجاح هذا التحالف يعني حرمانها من ثروات هائلة في شرق المتوسط تتطلع إلى نهبها، كما يعني تقييد قدرتها على الملاحة بلا رقيب والعيث فسادًا في البحر المتوسط.
ولا شك أن ليبيا هي الساحة التي تستطيع تركيا المناورة ضد خصومها الإقليميين، وفي مقدمتهم مصر، على أرضها. وعلى الرغم من اختلاف القاهرة وأنقرة حول جميع القضايا الإقليمية تقريبًا، وعلى رأسها التدخل التركي في سوريا والتحالف مع قطر وجماعة الإخوان، فإن ليبيا هي الساحة التي تطمح أنقرة لتهديد أمن مصر انطلاقا منها، فليبيا هي الجار الغربي الملاصق لمصر، ومعظم الجماعات الإرهابية في المنطقة تتمتع بموطئ قدم أو آخر فيها.
وفي يونيو الماضي، أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي أن مصر لن تسمح للقوات التركية في ليبيا والمليشيات الموالية لها بتجاوز "الخط الأحمر" الواصل بين مدينة سرت في منتصف الساحل الليبي ومدينة الجفرة وسط الصحراء الليبية، وفي القاهرة اجتمع ممثلو قبائل ليبيا لتفويض مصر بالتدخل عسكريًا في ليبيا إذا لزم الأمر لوقف تقدم الميليشيات المسنودة بالقوات التركية.
ولعل موقف القاهرة الحازم من مجريات الأحداث في الجارة الغربية هو ما مهد الطريق لاستجابات محتملة من أطراف الصراع الليبي بالعودة إلى طاولة المفاوضات. ففي أغسطس الماضي أعلن مجلس النواب الليبي والمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق مبادرة لوقف إطلاق النار والانخراط في مفاوضات لإعادة توحيد البلاد وتأليف سلطة تنفيذية موحدة تنبثق عن انتخابات حُدد موعدها في ديسمبر من العام المقبل.
وعنى قبول تركيا الضمني بوقف إطلاق النار أن أنقرة وصلت إلى نقطة أُجبرت عندها على الاعتراف بأنها لم تعد قادرة على تحقيق أهدافها في ليبيا بالوسائل العسكرية، فحتى ما قبل إعلان مجلس النواب وحكومة الوفاق وقف إطلاق النار كانت أنقرة تصر على أن تنسحب قوات الجيش الوطني الليبي من سرت والجفرة، رافضة التجاوب مع مبادرة وقف إطلاق النار التي أعلنها الرئيس عبد الفتاح السيسي في يونيو.
وفي تونس، انطلقت في 9 نوفمبر جولة حوار سياسي ليبي بين ممثلين عن مجلس النواب والمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الموالية لتركيا في طرابلس، برعاية الأمم المتحدة، سبقتها جولة أخرى في طنجة بالمغرب حققت التقدم المطلوب للبناء عليه في مباحثات تونس.
على الطرف الأوروبي من حوض المتوسط، بدا من الواضح أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قرر تصعيد المواجهة مع تركيا في شرق البحر المتوسط ، حيث تدعم فرنسا اليونان وقبرص في نزاعهما مع أنقرة بشأن احتياطيات الغاز الطبيعي والحدود البحرية.
وأمر ماكرون بتعزيز القوات البحرية والجوية الفرنسية في شرق المتوسط في منتصف أغسطس الماضي، ردًا على تعدي سفن تنقيب تركية على المياه القبرصية، ثم أعلن أنه يتبع "سياسة خط أحمر" في البحر المتوسط كي يكون واضحًا لأردوغان أن التحركات الفرنسية ليست من قبيل التهديد الأجوف.
وفي هذا الصدد، يجب تذكّر أن ماكرون قد راهن في مسعاه لرئاسة فرنسا جزئيًا على وعده بتعزيز الاتحاد الأوروبي وتعزيز "استقلاليته الاستراتيجية". ومن هذا المنظور، فإن الوجود التركي غير المنضبط على الأطراف المباشرة للاتحاد الأوروبي من شأنه أن يقنع العالم، والعديد من المتشككين في أوروبا بأنه لا يمكن الاعتماد على الاتحاد الأوروبي باعتباره جهة فاعلة جيوسياسية شرعية.
على الطرف الشرقي من العالم العربي، جاء الإعلان من الكويت في 4 ديسمبر الجاري عن إجراء مباحثات "مثمرة" لتسوية الأزمة الخليجية بوساطة كويتية أمريكية، حاملة الوعد برأب صدع خطير في الجسد العربي، سببه انسلاخ قطر عنه وانحيازها لمشروعات إقليمية، إيرانية تارة وتركية أخرى، غرضها الأول والأساسي تمزيق العالم العربي وقضم أطرافه واحدًا تلو الآخر، كي تخلو المنطقة من أي مشروع قومي عدا التركي وتوأمه الإيراني.
أما المسرح الجديد الذي وجد أردوغان فيه متنفسًا لفائض العدوانية لديه، فكان الصراع المتجدد بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناجورونو كاراباخ، مخاطرًا هذه المرة بصدام غير مأمون مع روسيا.
ويمثل النزاع المتجدد بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناجورنو كاراباخ بيئة عالية المخاطر لجهة إمكانية وقوع صدام مباشر بين تركيا وروسيا، فموسكو لاعب رئيسي في المنطقة المتاخمة لحدودها الجنوبية، وقد كان إقليم ناجورنو كاراباخ الأرمني بالأصل جزءًا من جمهورية أذربيجان السوفيتية بدأ نضاله للانفصال عنها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ولا تشعر روسيا بارتياح كبير للتدخل التركي المتزايد في الصراع والمنحاز إلى أذربيجان.
والمفارقة أن صفقة مع موسكو لشراء صواريخ الدفاع الجوي إس 400 هي ما جرّت على تركيا عقوبات أمريكية أخطأت حسابات أردوغان بشأن إمكانية إقدام واشنطن عليها، وفي يوليو الماضي أعلنت الولايات المتحدة استبعاد تركيا من برنامج إنتاج وتشغيل المقاتلة إف 35.
وفي 14 ديسمبر، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على إدارة الصناعات الدفاعية التركية وعدد من المسئولين الأتراك رفيعي المستوى، وشملت العقوبات حظر رخص التصدير الأمريكية لهيئة الصناعات الدفاعية التركية وتجميد أرصدة وفرض قيود على تأشيرة رئيس المؤسسة إسماعيل دمير ومسؤولين آخرين.
يقترب العام من نهايته وأردوغان محاصر في ركن ضيق، يتخلى عنه وكلاؤه الذين راهن عليهم لتفجير العالم العربي من طرفيه، الخليج وشمال أفريقيا، والأحاديث تدور في واشنطن حول ضرورة تأديبه، ويعجز عن اختراق جبهة التصدي لجشعه غير المحدود في شرق المتوسط، لينتهي المطاف بعزلة قاسية للرجل الذي لم يدخر جهدًا لتدمير أي احتمال لاستقرار المنطقة.