الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

في نشأة الكون.. الطريق إلى الانفجار الكبير


الكون هو سر الأسرار، فما أن وعى الإنسان العاقل "Homo sapiens"، إلا والكون بظواهره المتعددة والمختلفة يشغل حيزا كبيرا في تفكيره، فدائما يتساءل: كيف نشأ ومتى كانت هذه النشأة؟ وبالطبع، من الذي أوجده؟ وما الغاية من هذا الوجود؟ وما مصير الكون؟  هذه الأسئلة المحيرة اخترع لها الإنسان الأول إجابات تتناسب مع ثقافته وعلمه، هذا الإنسان الأول الذي راعته الظواهر الطبيعية بل أرعبته، لدرجة أنه قد عبد هذه الظواهر خوفا منها وطمعا، ثم  بعد رحلة طويلة يقدرها العلماء بما يقترب من سبعين ألف عام هي تقريبا عمر الإنسان العاقل الذي انتشر من أفريقيا في بقية العالم، منها ما يقترب من خمسة آلاف وخمسمائة عام هي فقط مرحلة التاريخ، والتي بدأت مع الحضارة السومرية في العراق والحضارة الفرعونية في مصر، أخذ هذا الإنسان في التحضر، بعدما انتقل من مرحلة الصيد والترحال إلى مرحلة الاستقرار بعدما اكتشف الزراعة، هذا الذي تبعه التحول الذكوري، حيث لاحظ الإنسان أن هناك دورا هاما للمطر في إنبات المحاصيل الزراعية، فأدرك دوره في عملية التناسل، وأن المولود الذي تلده المرأة التي كانت مقدسة في العصور القديمة، لهذه الولادة، التي كان يجهل الرجل فيها دوره، أدرك الرجل أن هذا المولود لم يكن ليوجد، لولا هذه البذرة التي يلقيها في رحم الأنثى.

وباكتشاف الزراعة استقر الإنسان حول الأنهار، هذا الاستقرار الذي كان، بداية للتاريخ، حيث  نشأت الحضارات وعرف الإنسان الكتابة، التي ابتكرها السومريون، التي نشأت في العراق ما بين النهرين، وطورها المصريون، حيث نشأت الحضارة المصرية حول وادي النيل، ومن بعدهم الفينيقيون الذين أخذت عنهم اليونان الأبجدية اليونانية القديمة.

خلال عمر الإنسان المتحضر كان هناك محاولة لتفسير الكون ونشأته انحصرت في ثلاثة أنواع: الأول من خلال تفسير ديني مطلق لا يقبل الشك ولا يتحمل النقد. والثاني من خلال تفسيرات الفلاسفة القلقة التي لا تكف عن الأسئلة والضرب بمطرقة الشك في كل شيء. والثالث عن طريق العلم الذي كان يسير بتؤدة هائلة وصبر شديد، حيث كان يعيقه تفسير كل من الدين والفلسفة،  وكل هذه المجالات الثلاثة استمرت في تقديم تفسيراتها التي ابتدأت في النوع الأول مع الأديان الأولى، التي زعمت أن الكون كان بيضة: البيضة الكونية هي بداية الكون أو البداية التي أخذ فيها الكون البدائي حيز الوجود من خلال "التفريخ" من البيض، والمزيد في بعض الأحيان على المياه البدائية للأرض، هذا الذي كان سائدا في العديد من الثقافات والحضارات.

كان لا بد للعلم أن يفك الارتباط بينه وبين التفسيرات التي يقدمها كل من الفلسفة والدين، فهو لا يعترف إلا بما هو تجريبي محسوس، وكان هناك معركة طاحنة في فك هذا الارتباط، حيث كان الصدام حتميا، فالعلم يأخذ كل يوم مساحة من تلك التي كان يسيطر عليها الدين، من خلال تفسير رجاله له، هذا الذي لم يكن ليمر هكذا دون وقوع ضحايا، كانت دائما فيمن يقدمون نظريات علمية جديدة لا تتسق مع هذه الرؤية "اليقينية"، وما هي بذلك، التي يقدمها الدين على لسان علمائه.

ولقد أعاقت أيضا التفسيراتُ الفلسفية العلمَ، فليس بعيدا عن الذهن كيف استمرت مستقرة نظرية أرسطو في تفسيره للكون لمدة ألفي سنة، حيث قسم العالم، الذي هو عنده أيضا كروي مركزه الأرض، إلى قسمين: عالم ما فوق القمر وعالم ما تحت القمر، الأول هو الكمال والثبات، والثاني التغير ومن ثم الفناء. وجعل عناصر الوجود في العالم الأرضي أربعة هي: التراب، الماء، الهواء، النار، أما العالم السماوي فهو مكون من مادة واحدة هي الأثير، حيث أن هذا العالم الأخير غير قابل للتوالد أو الهدم بل هو ثابت أبدي.

هذا النسق الأرسطي الذي لم يتم هدمه إلا على يد جاليلي جاليليو الذي خط بداية لعصر جديد للعلم. الذي تحرر ولم يعد يأبه كثيرا بتفسير رجال الدين ولم يعد يعبأ بمقولات ما ورائية، فاتخذ سبيله في الحياة سربا، وأخذ يفتش في الكون، ولا يتوقف عند حد، فلم يعد لديه السؤال لماذا هو الذي يدفعه للولوج إلى عوالم بعيدة، بل أصبح السؤال كيف هو السائد في العلم، ومن هنا انطلق في رحلته متجاوزا العقبة تلو العقبة، وكلما قطع شوطا أدرك أن هناك أشواطا لا نهائية عليه أن يسير في طريق قطعها، وكلما تقدم العلم، يظهر الجديد في كافة المجالات، هذا الجديد الذي يدفع لمزيد من البحث والتقصي ولمزيد من التجارب بهدف الوصول إلى حقائق علمية ما تلبث أن يعتري العلماء الشك فيها مرة أخرى، هذا الذي يمثل قوة دفع جديدة لتحقيق منجزات علمية متتالية، في مشوار طويل لن ينتهي، ولكنه بكل تأكيد في صالح الإنسان، الذي سيسعد أكثر بالمكتشفات والمنجزات العلمية.

ولقد كان لمعرفة نشأة الكون أطوار متعددة، آخرها تلك النظرية الشهيرة المعروفة بالانفجار العظيم، وهي النظرية السائدة لتفسير نشأة الكون، والتي بدأت بمفارقة أولبرز وهي نسبة إلى الفلكي الألماني هاينريش فيلهلم أوبلرز (1758-1840)، الذي شكك في أن يكون الكون أزليا ولا متناهٍ، والمفارقة ببساطة شديدة تقول: إن كان الكون لا متناهيا، فهذا يعني أنه ولابد أن تملأ النجوم السماء ليلا، ومن ثم لا يوجد ظلام، ويظل الكون مضيئا طوال الليل، وطالما نحن نرى ظلاما في الليل، فهذا يقوض نظرية أن هذا الكون لا متناه، ويؤكد فرضية أنه متناه، إن لم يكن في المكان، فعلى الأقل في الزمن ومن ثم فهو ليس أزليا بل ربما تكون له نقطة بداية.

كان العالم الفذ ألبرت أينشتاين يعتقد أن الكون ثابت وساكن غير متمدد، ومن هنا كانت تواجهه مشكلة في صياغة معادلاته، ما دفعه لافتراض ثابت فيزيائي، وذلك لمعادلة تأثير الجاذبية، أطلق عليه الثابت الكوني، حتى تتفق معادلاته مع تصوره عن الكون.

فجاء البلجيكي جورج لومتر (بالفرنسية: Monsignor Georges Henri Joseph Édouard Lemaître)‏ ولد في 17 يوليو 1894 وتوفي في 20 يونيو 1966 الذي قام بعمل نموذج رياضي مشتق من معادلات ألبرت أينشتاين أثبت فيه أن الكون ليس ثابتا بل يتوسع، هذا الذي رفضه الأخير والذي علق على معادلات لومتر بقوله: "إن حساباتك سليمة ولكن الفيزياء التي استخلصتها ليست واقعية" ("Your math is correct, but your physics is abominable.")

وكان لومتر، وهو قس كاثوليكي، قد قدم في تلك الرسالة التي شملت النماذج الرياضية المشتقة من نظريات أينشتاين والتي فيها فكرته عن تمدد الكون استنتاجا لقانون هابل، وقام بتعيين أول تقدير لثابت هابل، هذا الثابت الذي سيتم الاعتماد عليه لاحقا لتحديد عمر الكون.

وذكر لومتر أنه طالما أن الكون يتوسع، فمعنى ذلك أنه كان أصغر من ذلك، وأنه كلما رجعنا للوراء فإن  الكون يظل في الانكماش "عكس التوسع والتمدد" وهذا يعني أنه في بدايته كان عبارة عن ذرة صغيرة هي التي انفجرت وتوسعت وكونت هذا الكون، وأطلق على هذه الذرة اسم "الذرة البدائية". هذا الذي لاقى ترحيبا من العديد من الأديان حيث يقترب من التصور لديها عن نشأة الكون كما هو الأمر في الإسلام حيث نقترب مرة أخرى من الآية الكريمة: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ".

كما رحبت أغلب الطوائف المسيحية الكبرى بنظرية الانفجار العظيم وتعتبرها لا تتعارض مع قصة الخلق المذكورة في الكتاب المقدس أو العقيدة المسيحية. أما في العديد من كتب بوراناس الهندوسية، هناك فكرة شائعة أن الزمن مُطلق بلا بداية ولا نهائي، وهو ما يُخالف نظرية الانفجار العظيم. ومع ذلك، تستدل الموسوعة الهندوسية بنص في كتاب كاثا أبانيشاد 2:20، للإشارة إلى أن الانفجار العظيم يُذكّر البشرية بأن كل شيء جاء من البراهمان التي هي "أكثر اتقانًا من الذرة، وأعظم من كل عظيم.

ما قدمه لومتر كان مجرد تصور نظري، لم يهتم العلماء به الاهتمام الكافي، ولكن حينما لاحظ الفلكي الأمريكي إدوين بويل هابل (بالإنجليزية: Edwin Hubble )‏ (20 نوفمبر 1889 _ 28 سبتمبر 1953)، من خلال المشاهدة النظرية والتجربة الحسية تمدد الكون، وذلك من خلال "تأثير دوبلر" حيث وجد أن أطياف تلك المجرات التي كان يراقبها لمعرفة خصائصها منزاحة بدرجات متفاوتة نحو اللون الأحمر، هذا الذي يعني بالضرورة أن النجوم والمجرات تبتعد عنا، حيث لو كانت تقترب لكان الانزياح قد مال إلى اللون الأزرق. كما تقرر ظاهرة دوبلر.

بل إن هابل لم يثبت من خلال مقرابه أن الكون يتوسع فحسب، بل إن هذا التوسع يتم بشكل ونسب ثابتة بالنسبة لبعد هذه النجوم عن الأرض، وكانت سرعة التمدد والتوسع هي ٧٣ كم لكل مليون فرسخ فلكي: الفرسخ الفلكي (بالإنجليزية: Parsec)‏ هي وحدة مسافة يستعملها الفلكيون لقياس المسافات الكبيرة للأجرام الفلكية خارج النظام الشمسي. 1 فرسخ فلكي يساوي زاوية تزيح ثانية قواسية واحدة (1/3600 درجة). وهي تساوي 3,26 سنة ضوئية (31 تريليون كيلومتر أو 19 تريليون ميل).

فأصبح لدينا الآن إثبات تجريبي مشاهد على توسع الكون، بل أصبح لدينا معرفة محددة بمقدار هذا التوسع، الذي من خلاله نستطيع أن نحسب عمر الكون، فكما هو معروف من المعادلة الشهيرة: الزمن يساوي المسافة على السرعة، فإنه بقسمة الفرسخ الفلكي الواحد على هذه السرعة التي حددها هابل فإننا نصل لعمر الكون الذي هو 13.7 مليار عام تقريبا، ولكن في دراسة اعتمد فيها باحثون ألمان في معهد "ماكس بلانك" حسابات مختلفة، اتخذت مقاربات متفاوتة لمعرفة عمر الكون الحقيقي. معتمدين على "قانون هابل"، الذي يعبر عن معدل توسع الكون بالسرعة. أكد  الباحثون الفلكيون في معهد "ماكس بلانك" إن هناك خطأ في هذه الحسابات، قائلين إن الأمر يتطلب معيارا آخر من أجل تحويل المسافات النسبية إلى مسافات مطلقة.

وخلص الباحثون إلى أن عمر الكون هو 11.4 مليار سنة، وليس 13.7 مليار سنة كما كان سائدا في السابق.

واستند الباحثون في نتائجهم هذه إلى أن سرعة توسع الكون تصل إلى 82.4 كيلومتر في ثانية وليس 70 كيلومتر في الثانية، كما كان العلماء يعتقدون في السابق.

وإذا كان العلماء قد توصلوا إلى عمر الكون، فإن شكل الكون في هذه اللحظة كان أيضا محل بحث، حيث كانت هذه النقطة المتناهية في الصغر تحمل كل مكونات الكون، هذا الذي يعني أنها كانت تحتوي على كل الطاقة الموجودة في الكون الحالي، وفقا لما هو معلوم من قانون بقاء الطاقة من أنها لا تفنى ولا تستحدث من عدم.

ومن الأهمية بمكان هنا أن نشير إلى أنه في العام ٢٠١٠ في نهاية شهر مارس منه، حقق العلماء الأوروبيون في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (سيرن) إنجازًا كبيرًا ،حيث بدأ العمل بآلة محاكاة الانفجار العظيم والتي تحاول أن تكشف النقاب عن نشأة الكون وعن طبيعة المادة وطبيعة تكون كتلتها.

استطاع علماء المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (سيرن) الواقعة في منطقة الحدود السويسرية الفرنسية  الثلاثاء 30 مارس إنجاز تصادمات عالية الطاقة للبروتونات في محاولتهم لخلق نسخ متناهية الصغر من "الانفجار العظيم" الذي أدى إلى نشأة الكون، وتسمح التجربة للباحثين بفحص طبيعة المادة وأصل النجوم والكواكب.

هذه  التجربة التي نجحت باصطدام البروتونات شديدة السرعة ببعضها البعض بكم طاقة هائل، يصل إلى 3.5 ترليون إلكترون فولت، مصدِّرة شرارة شديدة الصغر ولكنها أيضًا شديدة الكثافة، أي أنها تمثل نوعا من الانفجار الكبير، ولكن على مستوى شديد الصغر.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط