الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الحداثة ليست غريبة عنا «2»


لم يعترني يوما شعور بنقص لانتمائي لعقيدتي الإسلامية أو قوميتي العربية أو وطنيتي المصرية، في ذات الوقت الذي، رغم افتخاري بهذه المكونات، لم أستشعر، بسبب ذلك، تعاليا على أصحاب عقيدة أخرى ولا قومية ثانية ولا أبناء أي وطن، فانتمائي اللامحدود لدوائري المختلفة والمتعددة، لم يَجُرْ يوما على انتمائي الإنساني، فكما اسمح لنفسي بالاعتزاز بديني والزهو بقوميتي والفخر بوطني أرى أن ذلك حق لأي إنسان على وجه الأرض مهما كانت عقيدته، وأيٍّ ما كانت قوميته، وإلى أي وطنٍ انتمى.

وذلك لم يمنعنا من النظر بموضوعية لما آل إليه حال العقيدة والأمة والوطن، هذا الحال الذي لا يخفى على الغافل فما بالنا بالمدقق والناقد الواعي، وهذا الذي يدفعنا دفعا لمحاولة إيقاظ العقل الجمعي المصري والعربي والإسلامي، في محاولة منا لنقله من هذا المربع الذي لا يليق به إلى آخر هو الأجدى له والأنفع وهو هذا العقل الذي تم تشكيله في العصر الحديث.

وهنا يمكننا أن نتفق مع المفكر المغربي عبدالله العروي، والذي كان يخاطب المثقفين والمفكرين العرب، حيث كان يرى فيهم قادة يمكنهم أن ينقلوا المجتمع العربي من مربع الذي هو فيه الآن إلى مربع الحداثة، وذلك من خلال ثورات دينية واقتصادية واجتماعية وثقافية، بضرورة الوعي التاريخي، حيث كان الرجل يرى أن العقل العربي قد حاصر نفسه في تاريخه العربي الإسلامي فحسب، عكس الأمم الأخرى التي لم تر بأسا، بل لم تر بدا، من النظر في التاريخ العربي، ولم تر نقصا في الاعتماد عليه فيما حققت من طفرات وثورات عقلية وفكرية وثقافية وعلمية، أوصلتها لاحقا إلى تلك الحضارة التي ينهل من معينها العالم أجمع، ذلك الذي نحن مطالبون به الآن أكثر من أي وقت مضى.

لقد كان العروي، وهو على حق في ذلك، ينظر إلى عصر النهضة وما تلاه في أوروبا، هذه النهضة التي أدت إلى تلك الثورات التي نشأت على إثرها الحضارة الغربية الحديثة، هذه الحضارة التي تمتد شيئا فشيئا لتصبح مدنيّة عالمية، هذا الذي لا يعني بالضرورة أن تصبح المجتمعات نسخة من بعضها البعض، فهذا غير مطلوب.

 بالإضافة لكونه غير صحي بكل تأكيد، حيث أن التمايز والخصوصية مطلوبان بكل تأكيد في هذا الثوب العريض المتعدد الزخارف الذي تلبسه الحداثة كل من ينتمي إليها أو يُدْرج تحتها، هذا عينه الذي لا يعني قبول إملاءات، كما أوضح العالِم في علم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة، والذي استشهد بدول شرق آسيا كنموذج حي بيننا، تلك التي تندرج في الحضارة الحديثة والتي أيضا تحتفظ بخصوصيتها الثقافية والحضارية والدينية كذلك.

إن الحداثة في تبسيط غير مخل على ما نرى، تقوم على ثلاثة مرتكزات أساسية: اولها هو الاعتراف بالفرد ككيان قائم بذاته، كيان مستقل حر له حق في المبادرة له الحق في المشاركة له كيان وهوية مختلفة ومتمايزة بمعنى الاعتراف بالفرد ككائن له حقه في التفكير والتعبير والاعتقاد والسلوك وفي ان يمارس اختياراته بشكل حر ما دامت تتناسب مع القانون.

والثانية  هي الاعتراف بالعقل كمرجعية كونية، أي أنه هو المرجع والمقياس الذي نقيس به الآراء ونحكم به على المواقف والاتجاهات.

أما المرتكز الثالث فهو نسبية الحقيقة، فلا أحد يمتلك الحقيقة، حيث أنها مشتركة بل أن الحقيقة في حالة نمو دائما، فهي كذلك في العلوم الطبيعية وعلوم الحياة، ففي جميع العلوم هناك دائما نظرية تهدم وتتجاوز النظرية السابقة، فمن شوبنهور وصولا إلى نيتشة مرورا برتيراند راسل وصولا إلى الفلسفة المعاصرة، تعمل المعرفة على إماطة اللثام وإظهار المخفي، وكلما يُماط لثام يظهر لثام جديد. فلم يعد مفهوم الحقيقة هي تلك الشاملة التي كان يركن إليها العقل في عصور أخرى وحضارات سابقة، وهذا يعني أنها متجددة وفي حاجة دائمة للبحث والعقل والعمل.

وهنا يمكن أن يعترض المعترضون على الداعين مثلنا للحداثة، فإذا كان هناك في العالم من ينتقد الحداثة ويذهب إلى ما بعد الحداثة، وكأنه الشهادة على فشلها، فما بالنا نحن الذين ندعو للحداثة، وكأننا لا نعلم ذلك، وكأنهم يصوبون نحو كبد دعوتنا سهم يرديها قتيلة، وهنا نقول: من حق من ابتكر الحداثة وعاشها وامتلك أدواتها أن يصبو إلى ما بعدها، أما هؤلاء الذين مازالوا لم تطأ أقدامهم شواطئها فعليهم أن يخوض عبابها أولا إلى أن يصلوا إلى الشاطئ الآخر، وساعتها يمكنهم أن يتطلعون إلى ما بعد الحداثة، ومع ذلك يمكننا أن نرى هذا الدور للمشرق فيما بعد الحداثة الذي يمثله الفيلسوف الألماني نيتشه، والذي يعد أهم أعماله على الإطلاق كتابه "هكذا تحدث زاردشت" وكما هو معلوم فإن زاردشت فارسي، وهذا يعني أنه حينما أراد أن يذهب العقل الغربي إلى ما بعد الحداثة اعتمد على الفيلسوف، أو فلنقل النبي الفارسي، صاحب "الأفستا" الكتاب المقدس لأتباع الديانة الزرادشتية.

إن الأسس المتينة التي بنيت عليها الحضارة الحديثة والتي هي "غربية" كانت نتيجة مباشرة لعلوم وفلسفة الحضارات التي تسبقها مباشرة وعلى رأسها الحضارة الإسلامية الغربية والتي لم تكن لتصبح حلقة الوصل تلك ما لم يتعلم  العلماء المسلمين العرب الحضارة اليونانية ويهضمونها ويتجاوزونها، كما فعلت الأخيرة بتعلم الحضارات السابقة وعلى رأسها الحضارة المصرية والبابلية والهندية وغيرها.

إذا فهذه الحضارة الحديثة الهائلة المسماة "غربية"، هي حضارة إنسانية ليست غريبة عنا، بل نحن - أعني أجدادنا- مشاركون بشكل أو في آخر في صنعها، بأكثر من سهم، ويمكننا أن نشارك دون حساسية مفرطة، بعدما أن نلحق بها ونتخذ أسسها وأساليبها، لنضيف لمنجزاتها.

أما من الناحية الروحية فلا شك أن الحياة الروحية في أوروبا، مؤسسة الحضارة الحديثة، هي امتداد للحياة الروحية الشرقية، فأتباع موسى عليه السلام هم أتباع لنبي "مصري" التربية والنشأة، وأتباع السيد المسيح هم أتباع لنبي فلسطيني الموطن والنشأة وأتباع النبي محمد هم أتباع النبي العربي.

فالغرب من الناحيتين الحضارية والروحية هو امتداد طبيعي للشرق، وتبادل الثقافات وامتزاج الحضارات أمر واقع عبر التاريخ بين الشرق والغرب إن كان ثمة شرق وغرب، الذي هو تقسيم ثقافي حديث في علم الاجتماع، انقسام الشرق-الغرب هو الاختلاف المُدرك بين العالمين الشرقي والغربي. بنظرة ثقافية بدلًا من كونها جغرافية في التقسيم، حيث أن حدود الشرق والغرب ليست مُثبتة، ولكنها تتنوع بحسب المعايير التي يتبناها الأفراد الذين يستعملون المصطلح. تاريخيًا، آسيا (ماعدا سايبيريا) كانت تعتبر الشرق، وأوروبا كانت تعتبر الغرب. يشير مصطلح «الغرب» في يومنا هذا إلى أستراليا، رغم كونها شرق، وأوروبا والأمريكيتين.

فإذا كانت اليونان التي هي أصل الحضارة "الغربية" غربا وهي جارة لنا وبيننا وبينها اتفاقيات رسم حدود بحرية وكذلك مع قبرص، وهنا يحضرني ما ذكره عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر وسؤاله المحوري إلى أية حضارة تنتمي مصر وأي عقل هو أقرب للعقل المصري؟ والذي كان قد أعلن أنه يقصد الشرق والغرب الثقافيين، كما ذكرنا توا، والذي يجيب عليه بوضوح شديد وهو أن ثقافتنا وعقليتنا ينتميان لهذه المنطقة البحر متوسطية، والتي هي قلب العالم الغربي الثقافي، كما أنه ذكر أن الحضارة تنتقل بين شاطئي هذا البحر فمرة تدول لهذا الشاطئ وأخرى تدول للشاطئ الآخر، ونحن نقول: وما علينا إلا أن نلتحق بتلك الحضارة، دون خوف على خصوصيتنا، التي نحن قادرون على حمايتها.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط