انشغل العالم كله بما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية على مدار الساعة من انتخابات هي الأشهر على مستوى العالم وخصوصًا هذه المرة، حيث تُجرى في ظل جائحة أصابت الملايين من البشر وحصدت في الولايات المتحددة وحدها ما يربو على المائتي ألف من الموتى الذين توفوا جراء الإصابة بها
كما أنها حظيت بمتابعة أكبر هذه المرة لأسبابٍ أخرى جعلت من هذا الحدث الأهم والأول على مستوى العالم حتى في مناطق النزاع المسلح، وذلك لما يحيط بشخصية الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب من تأثير جدلي على السياسة الدولية والمحلية في الولايات المتحدة، كما أنها المرة الأولى التي يتم استخدام التصويت المبكر والبريدي بها على هذا النطاق نظرًا لظروف انتشار جائحة كورونا، حيث استمرت عدة ولايات فترة أطول في فرز الأصوات التي وصلتها بالبريد بعد انتهاء اليوم الانتخابي مما دعا الرئيس الأمريكي الرافض للخسارة للتشكيك في نتائج الانتخابات، بل واتهام بعض الولايات بالتزوير لصالح منافسه الديموقراطي جو بايدن في سابقة لم تحدث من قبل في الانتخابات الأمريكية التي تُعد فريدة من نوعها وتنظيمها على مدار أكثر من مائتين وأربعين عامًا
وبتطور الموقف واعلان فوز المرشح الديموقراطي جو بايدن من قِبَل وكالات الأخبار والصحافة والإعلام قبل إعلان النتائج بشكل رسمي حتى على مستوى الكثير من الولايات، مما زاد الحدث سخونة وجعل كل وسائل التواصل الاجتماعي على مستوى العالم منشغلة بالتفاصيل وعدد الأصوات التي تم فرزها في كل ولاية ونسبة تقدم كل منافس على الآخر وعدد ما تساهم به كل ولاية من أصوات في المجمع الانتخابي الأمريكي للوصول للرقم السحري وهو مائتان وسبعين صوتًا للفوز برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية
وبعيدًا عن الخلافات التي شابت الحدث والصراع الانتخابي الذي امتد لما بعد يوم الانتخاب وعدم اعتراف ترامب بالنتائج واللجوء إلى المسار القانوني والتقاضي الذي ربما يطول مشواره حتى يتم الفصل فيه
وجدنا المحللين وجهابذة السياسة على شاشات الفضائيات وعلى صفحات التواصل الاجتماعي يقارنون بين سياسة ترامب الخارجية التي كان ينتهجها وتلك التي من المتوقع أن يتبعها جو بايدن عندما يتولى مقاليد الحكم، وكيف كان ترامب الأفضل وأننا لا شك سنعاني من فترة حكم الديمقراطيين القادمة، وذلك قياسًا على ما حدث في فترة الرئيس باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون باعتبار أن جو بايدن كان أحد أفراد هذا الفريق كنائب للرئيس
كل هذه التحليلات والأطروحات التي يتم نشرها والترويج لها دون النظر إلى وضعنا الحالي الذي وصلنا إليه ومقارنته بما كنا عليه من قَبْل وأثناء ولاية أوباما وما واكبها من أحداث على المستوى المحلي
ان مصر اليوم ليست هي مصر عام 2011 على كافة الأصعدة، من حيث الاستقرار السياسي، والنمو الاقتصادي، والترتيب العالمي للقوات المسلحة المصرية، كما أن مكانة مصر على المستوى العالمي قد عادت لموقعها الطبيعي بعد سنوات من التقلبات الداخلية والأزمات الاقتصادية التي تم التعافي منها ومِنْ ثمّ العبور من التأثير الاقتصادي لجائحة كورونا بشكل مدهش والذي ما كان له أن يكون لولا ما تم الوصول إليه في السنوات الأخيرة
فمَن منا لا يتذكر طوابير الخبز، وأزمات السولار والبنزين واسطوانات الغاز، وكوارث انقطاع التيار الكهربائي، واختفاء السلع التموينية، وتردي الوضع الأمني مع أزمة الاحتياطي النقدي وسعر صرف العملات الأجنبية؟
مَن منا لا يتذكر العشوائيات التي كانت في قلب العاصمة وباقي المناطق، مع تهالك الطرق والبنية الأساسية، وتأخر النظام التعليمي لمراتب متذيلة للقائمة العالمية لجودة التعليم!؟
لقد تغير الوضع تمامًا، فقد ارتفع الناتج الاجمالي المحلي لمصر عام 2020 لحوالي 362 مليار دولار مقارنة ب 230 مليار دولار عام 2010 ومن المتوقع وصوله إلى 480 مليار دولار عام 2025 طبقًا لبيانات صندوق النقد الدولي الذي توقع أن تحتل مصر المركز الخامس على مستوى العالم من حيث النمو الاقتصادي عام 2020 لأعلى معدل نمو اقتصادي يصل ل 3% ضمن 30 اقتصادًا متوقع لها النمو هذا العام أبرزها الصين وفيتنام
لقد حدثت هذه الطفرة الاقتصادية الكبيرة في ظل ظروف وتحديات داخلية وخارجية يعرفها الجميع على مدار السنوات التي أعقبت أحداث يناير 2011 وحتى مع الأزمة الاقتصادية العالمية التي يعاني منها الاقتصاد العالمي بسبب جائحة كورونا
ليس هذا فحسب، فمن الجدير بالذكر أنه واكب هذه الطفرة الاقتصادية طفرات أخرى في إعادة تطوير البنية الأساسية والطرق والانشاءات التي لم تشهدها مصر منذ عصر محمد علي، فقد تم شق فرع جديد لقناة السويس مع انشاء عاصمة جديدة لمصر وانشاء مدن جديدة أخرى في شمال مصر وشرقها وجنوبها بالإضافة إلى إعادة تأهيل القاهرة في معظم مناطقها من توسعة شوارع وتشييد كباري ومد خطوط مترو جديدة، وتطوير المناطق العشوائية وتحديث قطاع السكة الحديد، هذا بخلاف إنشاء محطات الكهرباء التي سدت ما كنا نعاني منه من عجز في الكهرباء حيث حولت ذلك العجز لفائض يتم تصديره
كل هذا التطور في الشأن الداخلي لازمه استعادة مكانة مصر الدولية، مما جعلها تترأس القمة الأفريقية في الدورة السابقة ومشاركتها ضمن قمم الكبار بشكل دائم في الفترة الأخيرة
ومع احتدام الصراع في المنطقة من القوى الإقليمية للسيطرة على الثروات وفرض الهيمنة والنفوذ، تقف مصر قوية عزيزة، وترسم للجميع خطوطًا حمراء لا يمكن تجاوزها، وتفرض كلمتها على الجميع في تعبير عن تلك المكانة والدور الريادي في المنطقة، وعلى مستوى العالم، مما ينجم عنه من التأثير الفاعل في تغيير أوراق اللعبة، والانصياع لما تطرحه مصر من حلول يتم تنفيذها الآن
كل هذا بالإضافة إلى استعادة ثرواتنا من الغاز في شرق المتوسط وعقد المعاهدات وترسيم الحدود البحرية التي تضمن لمصر حقوقها دون النظر لتلك الأطراف التي لا تخشى في المنطقة إلا الطرف المصري القوي والذي يفرض احترامه على الجميع
لا يستحضر أولئك المحللون والسياسيون وفلاسفة السوشيال ميديا كل هذه الحقائق حينما يحذروننا من تغيير قد يطرأ على ساكن البيت الأبيض، إن هذا التحذير لا ينطبق على مصر الحاضر أيها المحذّرون، حيث أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تتعامل بمنطق المصلحة الذي يقيّم ويحدد العلاقات مع الدول، وما كان قد حدث أثناء التخبط الذي اعترى المنطقة بأسرها فيما يعرف بالربيع العربي في العقد الأخير، لم يعد موجودًا في مصر التي خرجت من هذه التجربة قوية مستمدة تلك القوة من الجينات الحضارية التي يتمتع بها المصريون منذ فجر التاريخ
فليكن الرئيس الأمريكي ديموقراطي أو جمهوري، أهلًا به وبإدارته صديقًا وشريكًا في صناعة المستقبل على أسس من الاحترام المتبادل، واستقلالية القرار الذي يخدم مصالحنا معًا.