الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

السببية بين هيوم وكانط وأينشتاين والإمام الغزالي


إن عظماء العلم والفلسفة جميعا من شجرة واحدة جذورها ممتدة في أعماق التربة؛ تربة العبقرية تجمعهم فروعا وغصونا تثمر نورا للإنسانية، فهؤلاء العظماء يكمل بعضهم بعضا، وفي نظرتهم للكون والحياة إثراء هائل للحياة العلمية والفكرية والثقافية والفلسفية والدينية كذلك، ولعله من الجدير بالذكر أن نعلم أن العالِم له طبيعتان إحداهما علمية والأخرى فلسفية، فكل عالِم في طرحه للأسئلة التي لا تنتهي هو فيلسوف فمهمة الفيلسوف الأولى هو طرح الأسئلة، والعالِم في أي مجال من المجالات دائم لطرح السؤال بــ "لماذا، وكيف".

ولابد أن يُبْنى العلم على قواعد ثابتة وقوانين دائمة، ذلك الذي يجعل هناك أسباب تؤدي إلى نتائج يقينية، ليصبح العلم يقيني، هذه السببية التي ضربها الفيلسوف الإسكتلندي ديفيد هيوم  David Hume)‏ الذي (ولد في 26 أبريل 1711 - وتوفي في 25 أغسطس 1776)، وهو فيلسوف واقتصادي ومؤرخ اسكتلندي وشخصية مهمة في الفلسفة الغربية وتاريخ التنوير الاسكتلندي. ضرب هذا الفيلسوف السببية في مقتل حينما رفض قانون السببية متحديا  أن يستطيع أحد ” إثبات أن ماهية التجارب التي تسمح لنا أن نفهم "السبب" و "النتيجة" كأفكار مجرّدة. ذلك الذي عرّض العلم لعدم اليقينية، وكما هو معروف فإن ديفيد هيوم صاحب منهج تجريبي حسي غير مقتنع بالفلسفة المثالية العقلية التي تذهب إلى أنه بالعقل وحده يستطيع الوصول إلى المعرفة.

ولقد أنقذ الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (بالألمانية: Immanuel Kant) الذي ولد في القرن الثامن عشر (1724 - 1804) العلمَ من هذه الضربة القاصمة التي وجهها له ديفيد هيوم حيث تصدى لفكر ديفيد هيوم المعتمد على الحس والتجربة فقط، فأعاد الثقة للعلم بإمكان الوصول إلى نتائج يقينية غير احتمالية، وذلك من خلال نظريته في المعرفة "المثالية المتعالية" التي اعتبرت المكان والزمان والسببية من ضمن مقولات وقوالب قبلية في العقل تلك التي تحكم العالم باعتبارها قائمة في العقل الإنساني، وذلك في كتابه نقد العقل المحض أو الخالص أو المجرد (بالألمانية: Kritik der reinen Vernunft) حيث برر لنظريته في المعرفة بالعديد من الأدلة خاصة تلك التي تؤكد أن الزمان "الذي يرمز للعدد والجبر" والمكان الذي تخضع له "الهندسة" وأن كل من الجبر والهندسة يعطيان نتائج حقيقية موثوقة،  وهما قالبا إدراك وليسا متحققان في الواقع، وأن عقولنا جميعا مبنية على هذا الشكل الذي تتركب فيه هذه القوالب بهذه الكيفية الثابتة، ومن ثم تدرك العالم والأشياء على هذه الكيفية فبعدما تنقل الحواس من مدركات الحس هذا الكم الهائل من الاحاسيس فإن العقل من خلال القوالب القبلية المركبة فيه يقوم بعملية التنظيم بطريقة واحدة عند جميع البشر ومن ثم تصبح المدركات واحدة عند الجميع وبالتالي يمكن الحصول على علم يقيني ثابت.

كان هذا التصدي من إيمانويل كانط بمثابة الإنقاذ للعلوم الطبيعية، حيث يصبح بالإمكان الحصول على نتائج موثوقة ومعرفة حقيقية.

فهذا العلم الموثوق هو طريقة عقولنا لمعرفة العالم، هذه المعرفة التي تبدا بالتجربة ولكنها لا تنشأ عنها، ذلك هو الجديد الذي جاء به الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، فعقولنا واحدة وثابته ومن ثم ترى العالم على هذه الكيفية.

هذا الذي اتفق معه فيه أكبر عقلية، ربما، في التاريخ البشري ألبرت أينشتاين  (بالألمانية: Albert Einstein) الذي ولد ‏(14 مارس 1879 – 18 أبريل 1955) ذلك الفذ في عالم الفيزياء، ألماني المولد (حيث تخلى عن الجنسية الألمانية لاحقا) بعدما اتخذ من سويسرا مقرا لإقامته خوفا على نفسه من الاضطهاد المنتشر في ألمانيا ضد اليهود، فأصبح سويسري وأمريكي الجنسية بعد أن هاجر إليها، حيث أخبرهم بأن ألمانيا النازية سوف تتحصل على القنبلة النووية وهو ما كان له أكبر الأثر في حرص وإصرار أمريكا في سرعة امتلاك هذا السلاح النووي، وكان ألبرت أينشتاين قد أعلن ندمه من بعد على إخبار الأمريكان بذلك، مؤكدا أنه لو كان يعلم أن ألمانيا لن تتحصل على ذلك ما ساهم بشكل أو بآخر في تحفيز أمريكا على امتلاك هذا السلاح. 


اتفق أينشتاين مع كانط في مفهوم السببية وإن أختلف معه في كونها من البديهيات العقلية، بل هي مرتبطة أيضا بالتجربة، وكان ألبرت أينشتاين قد قرأ كتاب نقد العقل المحض لكانط، وهو في سن السادسة عشر، حيث تعرف على مفهوم قالبي المكان والزمان، وهو ما يؤكد أنه كان لهذا التعرف المبكر منه دورٌ بشكل أو بآخر في اكتشاف أينشتاين لنظريتيه "النسبية العامة والنسبية الخاصة".

تعرف أينشتاين على تلك المساجلة الفلسفية بين كانط وديفيد هيوم وانحاز لنظرية كانط في المعرفة، التي تجعل من السببية قالب إدراك للموجودات، ومن ثم يخضع الكون وجميع الأشياء إلى قانون ثابت جبري حيث كان يؤمن أينشتاين بتلك الجبرية إيمانا شديدا يجعل هناك فرصة للتنبؤ لما يمكن أن يقع في العالم طالما هو يسير وفق هذه القوانين الثابتة، فلا مجال لأن يحدث غير الذي تفرضه هذه القوانين، بطريقة حتمية، هذا الذي يعكس معنى مقولته: إن الله لا يلعب النرد، جاء هذا في ردِّه على خطاب من الفيزيائيّ الألمانيّ ماكس بورن. حيث كان ماكس يقول إنّ قلبَ نظرية ميكانيكا الكمّ الجديدة ينبض بالشكّ والعشوائيّة، وكأنه يعاني من اضطراب النَّظْم القلبي، فكانت الجملة ردا على أصحاب فيزياء الكم، الذين عادوا بنظريتهم للشك في إمكانية الحدوث، خاصة وأن الفوتون له شكلان يتحول بسرعة شديدة بينهما، فإما أن يكون موجه، وإما أن يكون جسيم، وليس هناك فرصة لضبطه في الحالتين: حيث يمكن أن تحدد وتتابع شكل واحد فقط من شكليه، وهو ما يعيد بنا في العالم الكمومي إلى الاحتمالية وليس اليقينية، ذلك الذي دفع أينشتاين في نهاية الأمر للقول: ربما أن الله يلعب النرد.

ملحوظة لكل عالم أو فيلسوف نظرة خاصة في مفهوم الإله: فديفيد هيوم لا يؤمن بوجود إله، وكانط يؤكد أن الميتافيزيقا لا تخضع للعقل، وكما يقولون، فإن كانط بعد أن أخرج الله من الباب فعاد وأدخله من الشباك بانيًا الدين على الأخلاق،  أما أينشتاين فكان، كما يقول، يؤمن بإله باروخ سبينوزا، هذا الذي يعني أنه يؤمن بقدرة وراء هذا الكون، ولكنه لا يؤمن بالله كما هو في الأديان الإبراهيمية، ذلك الذي أعلنه أينشتاين صراحة، حيث رأى الله في الأديان الإبراهيمية تصور بشري نتيجة للخوف من الظواهر الطبيعية أو الكوارث التي تحل على البشر ولم يكن يعرفون لها تفسيرا فاختلقوا فكرة الإله بهذا التصور.

أما عندنا في ثقافتنا وحضارتنا العربية توقف المعتزلة عند "السببية" ولكنهم رفضوا أن تكون قانونا ثابتا، فأبطلوا السببية إذ رأوا أنها مجرد العادة، حيث ذهب أبو هذيل العلاف المعتزلي إلى فكرة الجوهر الفرد، الذي هو الجزء الذي لا يتجزأ وهو ما تنتهي إليه المادة حيث لو كان التجزؤ إلى ما لا نهاية لتعذر على الله الإحاطة بالموجودات ويصبح العالم بلا نهاية، كان ذلك من دفاع المعتزلة على قدرة الله عز وجل. وإثبات أن هذه الجواهر من مواد مختلفة ومن ثم لا يؤثر أحدها في الآخر وبالتالي فمن يصنع التأثير هو الله جل شأنه.

إذًا لم يكن الإمام أبو حامد محمد الغزّالي الأشعري، أحد أعلام عصره وأحد أشهر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري، (450 هـ - 505 هـ / 1058م - 1111م). هو أول من أنكر السببية في كتابه "تهافت الفلاسفة" الذي أعلن فيه فشل الفلسفة في إيجاد جواب لطبيعة الخالق.

في كتابه الشهير السالف الذكر أنكر الغزالي مبدأ السببية حيث سار الغزالي على خطى المعتزلة والأشاعرة قبله بالقول إن الأشياء مستقلة عن بعضها البعض، وأنه أبطل دليل المشاهدة الذي اعتمده الفلاسفة للتدليل على السببية، فالمشاهدة، عنده، لا تدل على حصول الشيء بالشيء، بل حصوله عنده أو معه، وهنا فرق كبير، ولا تدل على أن لا علة له سواه.

وتناول هذه القضية بشكل فلسفي حيث ذكرها في المسألة الـ17 من كتابه "تهافت الفلاسفة"، فقال:

الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببـا وبين ما يعتقد مسببـا ليس ضروريـا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هـذا ولا إثبات أحـدهمـا متضمنــا لإثبــات الآخــر ولا نفيــه متضمنـا لنفــي الآخـر، فليس مــن ضــرورة وجـود أحـدهمـا وجـود الآخـر ولا من ضرورة عـدم أحدهمـا عدم الأخر.. فـإن اقترانها لما سبـق من تقدير الله بخلقها على التسـاوق لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفوت (الافتـراق) بـل فـي المقـدور خلـق الشبـع دون الأكل وخلق الموت دون جز الرقبة. 
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط