الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نظرة في العقل الجمعي


إن تفاوت تعامل الشعوب مع أزمة من الأزمات أو اختلاف التعاطي مع قضية من القضايا أو نظرة المجتمعات للمستقبل أو معالجتهم للتاريخ، إنما يصدر عن عقلية جمعية تصبغ هذا المجتمع أو ذاك بلون ذلك العقل الجمعي لهذه الأمة أو تلك، ذلك الذي يجعلنا ننظر بعين فاحصة لحال مجتمعنا، لنسبر من خلال هذا الفحص أدوار العقلية الجمعية المسيطرة على مجتمعنا، تلك العقلية الجمعية التي يرى "دوركايم  David Émile Durkheim" في نظريته أنها هي ما تصبغ أفراد المجتمع بخصائصها، حيث إنها ليست مجموع عقول أفراد المجتمع، بل هي سابقة عن الفرد الذي هو ما بين أمرين: إما أن يتماهى مع تلك العقلية الجمعية ومن ثم يصبح عضوا مقبولا في هذا المجتمع وإما أن يتسق مع ذاته، في حال رفضه لما هو سائد في المجتمع، وهنا يصطدم اصطداما بالمجتمع فيخرج عليه ليصبح منبوذا من مجتمعه، مطرودا من جماعته. ذلك الذي يجعل هؤلاء الرافضين للعقلية السائدة في مجتمع ما بين كفي الرحى: فإما يرضون هذا المجتمع وإما يرضون ذواتهم، وهنا على المصلحين والمجددين أن ينحازوا لقناعاتهم حتى ولو اصطدموا بالمجتمع ذلك الذي اختاره كبار المفكرين، مهما نالهم من أذى ولعل فيما لاقاه ابن رشد أحد أهم الفلاسفة المسلمين بل أحد أهم الفلاسفة في كل التاريخ مثل ونموذج.


فالرجل لم يرضَ أن يخضع للعقل الجمعي المسيطر على مجتمعه وخاض في سبيل ذلك حربا ضروسا مع الفقهاء أو أصحاب الفكر السلفي في العموم هؤلاء الذين يسيطرون على عقول العوام الذين هم أهم سلاح في أية معركة وأعظم حامٍ لهؤلاء المسيطرين عليهم فيتمترسون خلفهم ويلقون بأفكارهم وآرائهم فإذا هي المسيطرة على المجتمع.


ومن هنا تصبح مهمة المفكر أو الفيلسوف غاية في الصعوبة، ويصبح مجرد مناقشة الأفكار التي تلبّست عقول وأرواح العامة لهو ضرب من المغامرة غير محسوبة العواقب، فهل كان يتخيل كائن من كان أن يُنْفَى القاضي والفقيه والفيلسوف ابن رشد في حارة لليهود في بلاد المغرب بعد أن غضب عليه الحاكم، بعدما رفض ما أذاعه رجال الدين، فيما شاع من أن ريحا عاتية سوف تهب فتصبح البلاد كالعصف المأكول، ذلك الذي رفضه ابن رشد، وذكر أنه لو حدث وجاءت هذه العاصفة ستكون كغيرها من الرياح الشديدة ولن يكون لها هذا الأثر، فأصر محاوروه على أن آثارها ستكون مثل تلك التي وقعت لعاد وثمود فأنكر عليهم ذلك، هذا الإنكار الذي اعتبر طعنا في القرآن والإسلام جميعا، إضافة إلى جملة في أحد كتبه ذكر فيها أنه وجد الظرافة عند ملك البربر، وهو يقصد الخليفة المنصور، وهو وصف استغله خصومه ليشوا به عند الخليفة المنصور "أبو يوسف يعقوب الموحدي"، الذي استفسر منه عن ذلك، فأكّد له أنه لم يكتب كلمة "البربر"، بل كتب "البرّيْن"، وأن هناك خطأ في الكتابة، كما نقول في عصرنا اليوم "خطأ مطبعي"، ذلك الذي لم يقتنع به الخليفة، بالإضافة إلى علاقة ابن رشد الشخصية بأبي يحيى، شقيق المنصور والطامح إلى الإطاحة به، والذي سيقطع المنصور رأسه بتهمة "مصاحبته الفلاسفة وإضمار الكفر والضلالة".


كل ذلك دفع  الخليفة المنصور إلى أن ينفي ابن رشد في قرية "أليسانة" التي كان أغلب سكانها من اليهود، وأحرق كتبه، وأصدر منشورًا إلى المسلمين كافَّة ينهاهم عن قراءة كتب الفلسفة، أو التفكير في الاهتمام بها، وهَدَّد مَنْ يُخَالِف أمره بالعقوبة.


وأبقى الخليفة فقط على كتبه العلمية حيث كان طبيبا بارعا وله في الطب مصنفات قيمة كما اشتغل مجالات:  الفلك، والجغرافيا، والرياضيات، والفيزياء، العلوم الإسلامية، وعلم الكلام. وله أيضا بها مؤلفات معتبرة.


يذهب بعض الباحثين، الذين أميل إليهم، إلى أن العقل العربي في عمومه قد تشكّل واستقر على هذا الشكل بل تجمد منذ هذه اللحظة التي تم إحراق كتب ابن رشد فيها وتمت إهانته، التي هي إهانة  للعقل، وهي نفس اللحظة التي أعلت فيها أوروبا من قيمة العقل حينما عبرت إليها كتب ابن رشد واعتنت بها العناية الفائقة اللائقة بها فتأثرت به العقول الفذة من الأوروبيين بعدما اتخذت أوروبا من المنهج الرشدي الذي هو يُعْمِل العقل إعمالا ويحترم الفكر احتراما، منهجا لها، فإذا بنهضة فكرية وعقلية تبعث في أوروبا فتبعثُها من ركود مميت وسبات عميق، ممهدة الطريق لعصر النهضة ومن بعده عصر الأنوار لتقدَّر الحياة العقلية والعلمية والإنسانية في أوروبا وما كان ذلك ليحدث لولا الحرية التي انتزعها المفكرون والأدباء والفلاسفة انتزاعا من براثن المؤسسات القديمة.


إن إحداث حلحلة يسيرة للعقل الجمعي في أمة من الأمم يحتاج إلى وقت طويل يُبذل خلاله جهد كبير من أصحاب الفكر والرؤى، فالتأثير في المجتمع شيء والتأثير في العقل الجمعي شيء آخر، فربما تنتشر ظاهرة في المجتمع ولكنها ما تلبث أن تنتهي إما أن يتم تشكيل العقل الجمعي فهذا من الصعوبة بمكان، فكما قلنا آنفا، إن العقل الجمعي هو المشكل للعقل الفردي، ذلك الذي يعكس صعوبة أن يقوم الفرد بالتأثير في العقل الجمعي، خاصة وأنه سيسير عكس التيار ذلك الذي يجعله منزويا منبوذا من الغالبية الساحقة من المجتمع هذا الذي يعكس مدى صعوبة ان يتقبل المجتمعُ الجديدَ من الأفكار والمختلف من الرؤى والمغاير من التصورات، هذا الذي بدوره في حاجة إلى مفكرين يؤمنون بدورهم إيمان الأنبياء برسالتهم.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط