الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الثوابت في حب الوطن


على الرغم من قناعتي أنه يجب أن تخضع كل شيء مهما كان وأيٍّ ما كان للبحث والتحليل والتمحيص، فإنه
يظل هناك، لدي كذلك، دائما وأبدا ثوابت لا يمكن الاقتراب منها، وهذا ما يبدو تناقضا عجيبا، هو في حاجة إلى تفسير، فالأولى تخص الحالات، والثانية تختص بالأعيان، فكل حالة غير محصنة عندي من النظر والفحص، أما الأعيان ففيها من الثوابت التي لا يمكن بالسماح من الاقتراب إليها، وإذا أردنا نموذجا واضحا، وهو الأول عندي لتلك الحالة الثانية، فهو الوطن.

هناك صفات وراثية تولد في الانسان، نتيجة للچينات التي اكتسبها من أبويه، وهذه صفات بيولوجية، ويذهب فريق من العلماء الآن أن الصفات النفسية أيضا نتيجة لهذا التلاقح الذي حدث بين مني الأب وبويضة الأم، وليس للإنسان أي دخل في هذه الصفات النفسية، لدرجة الدراسات العائلية والعامة، تقدم أدلة دامغة أنّ جميعَ السماتِ الشخصية، وغيرها من الصفات الأخرى مثل الذكاء والميول الجنسية وخطر الإصابة بالاضطرابات النفسية، تُشير إلى أن جميعها يُمكن توارثها بدرجة كبيرة. وبعبارة محددة، فإن هذا يعني أن السمات التي يتمتع بها نسبة كبيرة من الناس، والتي تتفاوت قيمها مثل معدلات الذكاء أو المقاييس الشخصية، تُعزى إلى الاختلافات الجينية بين الناس؛ إذ إنّ قصة حياتنا لا تبدأ بكل تأكيد من الفراغ.

وإذا تركنا العلماء الذين مازال أمامهم الطريق طويلا للوصول إلى كل الأسباب والعوامل لهذا الأمر الذي ربما لا يمكن الاتفاق عليه، على الأقل الآن،  ونذهب إلى الصفات المكتسبة، والتي هي أيضا قدرية، فإن أول صفة يتحصل عليها الإنسان بمجرد ولادته هي الانتماء للوطن، فيوصف باسم الجنسية التي يكتسبها تلقائيا، قبل أن يوصف بأية صفة أخرى مكتسبة،  ذلك الذي يعكس ما للوطن من أهمية، وما للانتماء إلى هذا الوطن من قيمة.

الانتماء للوطن ليس كلمة تلقي، ولا نشيد يعزف، ولا حکایات تُقص، ولكنه حالة مستمرة في عشق ثرى الوطن، حالة تجعل كل ما تقوم به، أو تؤديه، مهما كان صغيرا، يصدر عنك وفي حدقة العين يرفرف علم البلاد، وتقوم بأدائه، وفي مخيلتك خريطة الوطن وحدوده، وتفعله وأنت تستشعر عظمة وجلال الوطن.

إن الدفاع عن الأرض قدس الأقداس عند الجيوش والقادة والزعماء والشعوب، وعدم التفريط في ذرة تراب واحدة هي المبدأ الذي يعتنقه كل إنسان وطني في أي بلد من البلدان، وأي أمة من الأمم، ذلك أن حدود الأرض التي تملكها دولة من الدول، ليست ملكا لمن يعيش عليها فحسب، بل هي أمانة تقوم بحمايتها هذه الجماعة البشرية، ويعمل على الحفاظ عليها هذا الجيل الحالي، والذي هو متجدد على مدار السنين؛ ليسلمها لجيل تال عليه أن يحمل الرسالة، وأن يحفظ الأمانة هو الآخر، ليقوم بتسليمها إلى من بعده من أجيال.

ومن هنا فإن الدفاع عن التراب، وحماية الحدود دونها الأرواح، وترویها دماء الأبطال من أبناء الدول، تلك الأرواح وهذه الدماء التي تُسْتصْغَر أمام حبات الرمل أو ذرات التراب، إن هذا الفداء بالأرواح وذاك البذل للدماء في سبیل تراب الأوطان لهو أمر طبيعي، فالإنسان ذاهب، والأوطان باقية، ومن هنا تكون التضحية بالزائل، للحفاظ على الباقي دوما على مر الزمان وهو الوطن.

ليست كلمة تلقى هكذا في الفضاء، تلك التي نسمعها من البعض، وخاصة المصريین، حينما يطلب أن يُوَاری الثرى بعد موته في مسقط رأسه أو في وطنه، ذلك المطلب الذي يخرج من هؤلاء المغتربين المقيمین في خارج الأوطان، والذي يمكن أن ينتاب البعض التعجب والحيرة في تفسيره، إذ كیف بعد غربة قد تصل إلى نصف قرن أو یزید، في بعض الأحيان، هاجر فيها أو رحل، طوعا أو کرها، ذلك المغترب عن وطنه، وإذا به، في وصية لأبنائه، أو المقربين منه، مكتوبة أو شفوية، كم رأيناها وقرأناها.

يطلب أن يُذْفَن في وطنه، بل يحدد، غالبا، مسقط رأسه، تلك الحيرة التي ما تلبث أن تزول، وذلك العجب الذي لا يلبث أن يتبدد، إذا أدركنا أن هذا المغترب السوي، يتشربه إيمان عمیق بحب الوطن، وأنه في الحقيقة معجون من تراب بلده، مشدود إليه، لا يمكن أن ترتاح عظامه، إلا إذا اختلطت به ثانية، ولا يمكن أن تهدأ روحه إلا إذا ذاب تراب جسده المتحلل مع تراب ذلك الوطن، ليضیف ذرات تراب جديدة تضاف لهذا الوطن لا تنقصه.

إن الأوطان لاتُحمى حدودها من خلال تلك الجيوش التي تسعى كل دولة على إنشائها وإعدادها خير إعداد، والتي توفر لها أسباب تفوقها، كل دولة حسب إمکاناتها، وقدراتها؛ البشرية والمادية والعلمية، فحسب، ولكنها تحمي كل ذرة من ترابها بإيمان متغلغل في أعماق شعوب هذه الأوطان بأن بقاءها وحمايتها هو الأولی والأهم من أي شيء آخر، ذلك الإيمان الذي يجعل جميع أبناء الشعب جنودا في الوطن، يأتمرون بأمره، وينتهون بنهيه، ذلك الذي لا يمكن أن يحدث إلا في حالة وعي عامة، تلك الحالة التي تعلي مفهوم قيمة الوطن عما سواها، وتجعل العمل على رفعة ذلك الوطن في العقل الجمعي للشعب إيمانا مطلقا يستحيل إلى عمل فردي متناغم في منظومة كلية إطارها الإخلاص وحدودها الوطن.

ذلك الوعي الذي لا يمكن أن تتحصل عليه أمة أو يمتلكه أبناء شعب، إلا من خلال آليات ضبط، ومحاسبة، يدركون فيها أن هذا الوطن هو ملك لهم، وستمتد ملكيته إلى أبنائهم وأحفادهم، ذلك الذي يستدعي شعورا يتملك أبناء ذلك الشعب أن ما من فوارق بينهم في الحقوق والواجبات، وأنه ليس هناك محاباة لفئة دون أخرى، أو اصطفاء لمجموعة دون سواها، أو تمييز لطائفة دون غيرها.

إن أكثر الجيوش إيمانا بالوطن هو جيشنا المصري الذي ضرب أروع المثل في الفداء والتضحية، وأكثر الجيوش في العالم، ولا أبالغ، فيما يملكه من حب وعشق في نفوس أبناء شعبه، فما من مصري إلا ومتيم بمن يرتدي الزي العسکري لهذا الجيش العظیم، تقديرا لعقيدته التي لا تعتدي، ولكنها تدافع وتحافظ، وإيمانا بتضحيات أبطاله، الذين يبذلون أرواحهم ودماءهم طالبين الشهادة، راضين بقضاء الله، ضاربين المثل في حماية الأوطان، وما يقوم به أبطال ذلك الجيش الأبي في سیناء الحبيبة، في حرب يواجه فيها عدو خسيس، تساعده قوى ودول تسعى للنيل من مصرنا الغالية، يقدم خلالها أسود القوات المسلحة المصرية مثلا يحتذي في الفداء والعطاء، إنما يبرهن على تلك العقيدة المترسخة في أعماق الأعماق، الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، المبنية على الدفاع لا الهجوم، على الحفاظ لا الاستیلاء، علی رد کید المكيدين، يقدر ذلك كله شعب يثق في قدرات أبطاله، ويؤمن بنفس عقيدتهم..

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط