العلاقة بين التاريخ والسرد بصنوفه علاقة أزلية متجذرة ووطيدة، فالأول يمكن أن نطلق عليه البئر السحيقة التي يمتلئ باطنها بالإلهام الدائم للسرد، أو إن شئت فقل: المادة الخام للإلهام التي يقوم السارد بتصنيعها ووضع لمساته الإبداعية ليضع الأحداث التاريخية في مقام إبداعي يزيدها ترسيخا في الذاكرة الوطنية، وتداولا بين الأجيال اللاحقة لتستعصي على النسيان، إذ أن السرد بجمالياته وتمكن صاحبه من أدواته، أكثر قدرة على إبقاء حوادث التاريخ محل ذكر، ومحل عبرة.
يقول الإمام محمد عبده :" إن قراءة التاريخ واجب من الواجبات الدينية، وركن من أركان اليقين لا بد من تحصيله".. هذا أمر جيد وقت أن كان التاريخ يقرأ، ووقت أن كانت هناك أجيال تعرف قيمة التاريخ وتبحث عن كتبه، لكن الوضع تغير في عالمنا اليوم، وتعرض التاريخ-كل التاريخ إلا قليلا- لحملات ممنهجة من التشويه تارة، والتزييف تارة، وهي حملات استعرت في ظل توحش التكنولوجيا والإعلام الرقمي، لذا فإن مهمة الأدباء باتت وطنية بامتياز، وأعمالهم تجاوزت الامتاع بالسرد إلى الحفاظ على الهوية وحفظ الحقوق التاريخية، وذلك هو جوهر العلاقة الآنية بين التاريخ والأدب.
أقول ذلك في حضرة سرد مختلف، وصوت قادم من شاطيء البحر الأحمر، حيث تشكلت ملامح أديب أسمر يحمل جنسية إريترية وهوى إفريقي، لكنه يكتب لكل العالم الحر شرقا وغربا، ليبدو سفيرا لبلاده يحمل جواز سفر أدبيا، ويروج لتاريخ بلاده بدبلوماسية السرد المتقن المتعقل في أعمال سردية ينهمر فيها التاريخ بحوادثه ونوازله ومآسيه كما أمطار مصوع، ويلوح في سطور كتاباته نضال الإريتريين ثمينة ثرية كما الأحجار الكريمة التي تزدان بها مياه بلاده على شاطيء البحر الذي كان وسيظل حلم المستعمر الإثيوبي الذي كان طمعه في خيرات هذه الأرض بمثابة الشعلة التي فجرت النضال في عروق قادة حرب التحرير من ناحية، وألهمت مبدعي إريتريا سردا وشعرا يفيض بالإبداع.
هذه السطور السالفة من حظ أديب خصب متجدد مزدهر مناضل كما التاريخ الذي يستعمر كتاباته.. إنه الكاتب الإريتري هاشم محمود الذي استطاع في فترة وجيزة أن يلفت الأنظار إلى أدب إريتريا، ويكون سفيرا لهذه البلاد في عموم المحافل الثقافية المعنية بمنتوج القارة السمراء وبأدابها التي تعرضت للظلم والتهميش كنتاج طبيعي لعقود طويلة من الاستعمار وتجريف القارة الثرية من مواردها البشرية والفكرية.
التاريخ في أعمال هاشم محمود هو المكون الرئيس، لنقل إذن إن قراءة لعمل واحد من أعماله كفيلة بأن تطلعك على تاريخ بلده ومعاناة بني وطنه في ظل احتلالين تنافسا على تركيع شعبه واستنزاف موارده وقمع حريته، وكذلك تطلعك على ملحمة النضال الإريترية التي سطرتها هذه الأمة الناهضة الرافضة للانكسار.
إن هاشم محمود الذي يكتب بالعربية، جعل تاريخ بلاده مادة شيقة للقراءة باستمتاع من دون الحاجة إلى البحث عن كتب تاريخ في المكتبات، وكذلك من دون اللجوء إلى محركات البحث لاستجلاب تاريخ هذه البلاد، لأنه اعتمد منهجين في سبيل ذلك: منهج التطويع الذي سخر من خلاله السرد بشكل عام ليغوص به في أعماق التاريخ مفصلا لأحداثه ومجسدا لشخصياته ومطوعا خيالات الزمان والمكان لتلك المهمة المقدسة، ومنهج التنويع الذي تبدى في صنفي الرواية والمجموعة القصصية، وأجاد في هذين النوعين تحويل التاريخ إلى ذائقة أدبية مستصاغة ومهضومة من دون ملل، وأجزم أنه نجح بكلا المنهجين في أداء رسالة وطنية منوط بها كل مبدع، حتى كانت المحصلة في النهاية: "من قرأ أدب هاشم محمود، فقد قرأ تاريخ إريتريا وعلم جغرافيتها وزار حواضرها وعرف طباع أهلها تمام المعرفة".
هذه وإن طالت، ليست إلا مقدمة تعريفية لهذا الكاتب المستلهم من التاريخ، الملهم للباحثين عن المعرفة بإريتريا ونضالها، وحتما ستكون هناك من رحم هذه المقدمة قراءة مفصلة تالية لكل عمل من أعمال هاشم محمود (تقوربا-شتاء أسمرا- الطريق إلى أدال-عطر البارود-الانتحار على أنغام الموسيقى.. وغيرها) التي تمثل عوالم خصبة للسرد والتاريخ، وتوثق للعلاقة بين التاريخ كملهم، وبين هاشم محمود ككاتب أمسك بحوادث التاريخ وصنع منها أحجارا كريمة ممهورة بخاتم بلاده وإبداعه الذي لا يزال يبوح خيالا وجمالا وتاريخا.
وللحديث بقية