الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ابن الفلاحة الذي أصبح الباشا الوزير


لا تحزن، فقد تأتيك النعمة من حيث لا تدري بعد أن تتوهم أن الأبواب أُغلقت في وجهك، لا تحزن فقد يكتب الله لك الخير فيما تتصوره أنه شر أتاك، لا تحزن ربما ما تتعرض له من مأساة يكون بداية للصعود لدرجات السمو، وعندما تثق أن الله معك تيقن أن له مشيئة أخرى في همومك، وقل على الله توكلت.


بتلك الكلمات همس قلب الفلاحة البسيطة عقب أن انتابتها هموم كثيرة، مبروكة خفاجى هى رمز لامرأة توكلت على الله فأعانها ورفع قدرها، هي ابنة إحدى قرى مدينة مطوبس محافظة كفر الشيخ، تصورت أن الدنيا أظلمت في وجهها حينما طلقها زوجها إبراهيم عطا العامل الأجير؛ بسبب كثرة ديونه، وعدم مقدرته على الإنفاق، بعد شهور قليلة من الزواج وقرب ولادتها مولودها الأول الذي جاء للدنيا العاشر من أكتوبر 1880، كانت الفلاحة البسيطة ترى أن الله اختار لها الأفضل، لذلك طلبت من أمها ترك القرية للعمل في البندر، ووقع اختيار الأسرة على الإسكندرية لوجود أحد الأقارب هناك، وبإمكانه توفير فرص عمل لهم.


أخذت الأم ابنتها المطلقة الشابة مبروكة وشقيقها وانطلقوا للإسكندرية لتنجب بعد وصولهم بأيام طفلا جميلا أطلقت عليه اسم علي، وبدت على ملامحه من البداية علامات النبوغ والهدوء بتصرفات بسيطة كان يقوم بها، كان قلب الأم يرتجف عندما تسمع الآخرين يصفونه بأنه ابن موت، نظرًا لِما يبدر منه من تصرفات عاقلة في بداية تكوينه الطفولي، بالإضافة لبشاشة وجهه، وهو اعتقاد كان يسود الريف عندما تبدو على الطفل ملامح غير تقليدية ونبوغ مبكر كانوا يعتقدون أن الطفل بتاع ربنا وأطلقوا عليه ابن موت.  


نبغ الطفل في سنوات دراسته في المرحلة الابتدائية، وكان يعمل في مهن مختلفة يساعد والدته في مطالب الحياة، المسئولية والنبوغ كانا أبرز ما يتصف به الطفل الصغير؛ لذلك كرست والدته نفسها لتربيته، وعملت في بيع الجبن واللبن لسكان الإسكندرية، وألحقت نجلها علي في مدرسة رأس التين الأميرية، وتفوق في دراسته وكان ترتيبه الأول في سنوات دراسته، وحين حصل على الشهادة الابتدائية عام 1892.


علم والده بتفوقه فذهب إليها ليأخذه في حضانته، ويلحقه بوظيفة بالشهادة الابتدائية والتي كان مسموحا بالتوظيف بها آنذاك، رفضت الفلاحة البسيطة طلب طليقها وأصرت على أن يستكمل نجلها تعليمه الكبير، كانت تشعر وتثق أن الله يدخر لنجلها مركزا مرموقا حسبما أكد معلموه، تفتق ذهن الأم  لحيلة للهروب من طليقها ومطاردته لها بأن يأخذ الطفل ليساعده.


قررت الهروب من الإسكندرية كلها، وأثناء وجود طليقها في البيت ليأخذ الابن قامت بالهروب هي ونجلها عبر أسطح البيوت وهربت به للقاهرة، وعملت لدى إحدى الأسر التي تعاطفت مع قصتها وساعدتها على أن يستكمل نجلها تعليمه، والتحق الطفل بالقسم الداخلي بالمدرسة الخديوية في درب الجماميز، وتفوق في دراسته ليحصل على شهادة البكالوريا عام 1897، ويلتحق بمدرسة الطب بقصر العيني وتخرج فيها عام 1901.


وكان يحصل على ثلاثة جنيهات شهريًا نظير تفوقه، ويرسلها لوالدته ليعينها على مطالب الحياة بعد أن أعياها شقاء السنين، ويكتفي هو بما يحصل عليه من عمل كان يقوم به بفترات الإجازة أحيانًا، وأيام الدراسة كان يقرأ القرآن في المقابر أيام الجمع ليحصل على ما يكفي مطالب حياته لكي لا يرهق والدته، وعقب التخرج افتتح عيادة مع صديقه د. عبد المجيد محمود، إلا أنها لم تحقق الشهرة والعائد لكون المرضى كانوا يفضلون الطبيب المشهور، فقام بإغلاقها والتحق بوظيفة في مصلحة الصحة براتب بسيط، لم يكن يود أن تنتهي حياته هكذا، فكان يقرأ كل جديد في المجلات والمؤتمرات الطبية حتى جاء وباء في قرية "بوشا"، إحدى قرى أسيوط عام 1902، وتم انتدابه هناك، ومن خلال متابعته للمجلات الطبية وسعة اطلاعه كان الوحيد من الأطباء الذي أكد أن الوباء هو كوليرا آسيوية جاءت مع الحجاج في أواني الماء.


ونبغ في تقديم العلاج ومحاصرته، وظهر تحسن شديد في حالات المرضى، ثم انتدب مرة أخرى لقرية ظهر بها وباء للسيدات فقط، واكتشف أنه جاء من روث الحيوانات التي تتعامل به السيدات الريفيات كوقود للنار في الأفران البلدي، وقام بمحاصرة الداء لدى المريضات، وتقديم الرعاية والعلاج لهن حتى قضى على الوباء.


برع الدكتور علي في مجال تخصصه أمراض الجهاز الهضمي، حتى أنه أجرى العديد من العمليات مثل استئصال كلى وتفتيت حصوات في وقت انعدمت فيه التجهيزات الطبية، وشاءت الأقدار عام 1913 عقب عودته من مهمة طبية بعد انتهاء حرب البلقان أن يقوم بعلاج الآنسة حفيظة وهبي راغب من تقيح في إصبعها، ونشأت بينهما علاقة احترام انتهت بالزواج، وأنجب منها ثلاثة أبناء هم حسن الذي أصبح طبيبًا بقصر العيني، وعلي طبيب أمراض النساء، أما الابنة فهي الدكتورة ليلى أستاذ الآثار الإسلامية بالجامعة الأمريكية التي ورثت حب الآثار من والدها الراحل.


علت شهرة الدكتور علي إبراهيم عطا، رائد علاج الجهاز الهضمي، الخلوق المحب الخدوم لكل فئات الشعب، وتم ترشيحه لعلاج السلطان حسين كامل الذي أعياه المرض، وفشل الأطباء الأجانب حينها في علاجه وأجرى له جراحة ناجحة تعافى بعدها السلطان تمامًا، وكانت المكافأة تعيينه استشاري جراح الحضرة العليا السلطانية، ومنحه رتبة الباكوية، وفي عام 1922 منحه الملك فؤاد الأول رتبة الباشوية، وتوالت بعدها نجاحاته، وفي عام 1929 تم اختياره ليكون أول عميدًا لكلية الطب قصر العيني، وقام بتطوير العمل بها، وتعددت الأقسام والبعثات العلمية الطبية للخارج، وكان له الفضل في تشجيع وقبول الفتيات لدراسة الطب، ثم أصبح رئيسًا للجامعة، ونتيجة لخدماته الجليلة وتطويره للعمل الصحي تم تعيينه وزيرًا للصحة في وزارة حسن باشا صبري في يونيو 1940، وعقب انتهاء خدماته بالوزارة تم تعيينه مديرًا لجامعة فؤاد الأول في سبتمبر 1941، فقام بتأسيس نقابة للأطباء لترعى مصالحهم، وأصبح هو رائد النهضة الطبية الحديثة.


ومع توالي نجاحاته وإزدياد هموم وأعباء المهنة زادت حالته الصحية إرهاقًا نهاية عام 1946، ولما كان اليوم الثامن والعشرون من يناير 1947 مكث في بيته من شدة الألم، وتناول غداءً خفيفًا ودخل لحجرته حيث إرتاح  للأبد، ماتت الروح الجميلة بعد أن ترك ذريةً صالحة، وأحفادًا عِظام يُشار لهم بالبنان، الآن ألف رحمة لروحه الطاهرة، ومن قَبله مليون رحمة للأم الأصيلة بنت الأرض المصرية الطيبة مبروكة خفاجى؛ التي أتمنى أن يقوم المجلس القومي للمرأة بتخليد اسمها الطاهر.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط