في الرابع والعشرين من يونيو الماضي أصدرت المحكمة العليا في تركيا قرارا بإلغاء المرسوم الحكومي الصادر في العام 1934 بتحويل "آيا صوفيا" من مسجد إلى متحف وعلى أثره قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإصدار مرسوم بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد وأقيمت أول صلاة فيه في الرابع والعشرين من يوليو الجاري واعتبر أن هذا القرار هو أمر سيادي وداخلي تركي ولا يجوز التدخل الخارجي فيه كما اعتبر أنها خطوة سيسجلها التاريخ في صفحاته!!
القرار لاقى العديد من الإنتقادات الدولية من اليونان التي شهدت مظاهرات حاشدة وحرق للعلم التركي أمام كنيسة آيا صوفيا باليونان وكذلك من الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا المرتبطة ارتباطا وثيقا بأيا صوفيا كما وصف رئيس لجنة الشؤون الدينية في مجلس الإتحاد الروسي القرار التركي بأنه يوم حزين في جميع أنحاء العالم المسيحي كذلك أدانته منظمة اليونسكو فالكنيسة مسجلة على لائحة التراث العالمي وهناك التزامات قانونية مترتبة على تركيا ويجب ألا تخرق هذه الإلتزامات.. كما قال البابا فرانسيس بابا الفاتيكان أن القرار يؤلمه للغاية وأنه حزين جدًا على القديسة آيا صوفيا.
كما حذر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو تركيا من الإقدام على هذه الخطوة في مطلع يونيو الماضي لكن للأسف كل هذه الإدانات لم تترجم إلى موقف دولي موحد يثني أردوغان عن هذا القرار مثلما لا يتم إثنائه أو مراجعته في كل مغامراته الطائشة لزعزعة إستقرار المنطقة حتى اليونسكو رغم أنها منظمة دولية إلا أنها تعاني منذ إنسحاب الولايات المتحدة منها إرضاء لإسرائيل.
ليستمر أردوغان في لعبته المفضلة بإستفزاز العالم المتحضر والعبث بالتاريخ ليفرض سياسة الأمر الواقع.. بدايةً هذه الكنيسة بنيت في العام 532 ميلاديًا وكانت ملكا للإمبراطور البيزنطي أي قبل وجود تركيا أصلًا ثم تحولت إلى مسجد بعد أن فتح السلطان الصوفي محمد الفاتح (الذي لا علاقة لأرودغان به من قريب أو بعيد) القسطنطينية وهي اسطنبول حاليًا وهو فتح إسلامي عظيم بشر به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا أنكر ذلك لكنه لم يأمرنا بتحويل الكنيسة إلى مسجد فعندما فتحت القدس لم تحول كنائسها إلى مساجد بل أعطى لهم سيدنا عمر بن الخطاب العهدة العمرية ومنها ألا تسكن كنائسهم ولا تهدم كما أنه رفض الصلاة داخل كنيسة القيامة وصلى على مقربة منها وقال للبطريرك لقد فعلت ذلك كي لا يضع المسلمون عليها يديهم في حجة إقامة الصلاة فيها وأني لا آبى أمهد السبيل لحرمانكم منها وأنتم بها أحق وأوفى..
أي أنه فعل ذلك درءًا للفتنة وخوفًا من أن تتحول الصلاة داخل الكنيسة إلى عادة تيمنًا به ثم جاء قرار (مصطفى كمال اتاتورك) مؤسس تركيا الحديثة ورئيس الجمهورية في ذلك الوقت بتحويلها إلى متحف وإهدائه للإنسانية في العام 1934 وظل القرار ساريًا لثمانية عقود أي أن أيا صوفيا هي جزء من التراث الإنساني وصرح تاريخي لكن أردوغان يلعب بها كورقة للضغط السياسي ولإعادة نشر الفتنة الإسلامية المسيحية التي دفنها أجدادنا منذ 700 سنة وأكثر يريد هو أن يوقظها مرة أخرى هذا هو مشروع أردوغان الحقيقي.
أردوغان لم يقم بهذا العمل بنية سليمة إطلاقًا بل ليجند المسلمين البسطاء في العالم ليحاربوا في معركته الخاسرة وأن يجتذب مشاعرهم فالقضية أصلًا ينظرها القضاء التركي منذ أكثر من خمسة عشر عامًا فلماذا حسمت الآن؟ ونحن نعلم جيدًا مدى تأثير أردوغان على كل مؤسسات الدولة بما فيها القضاء بشهادة أحزاب المعارضة التركية وعلى رأسهم (كليتشدار أوغلو) زعيم حزب الشعب الجمهوري الذي قال إن أردوغان يستخدم الدولة التركية لصالح أسرته..
لذلك تصدر أردوغان الصلاة الأولى في آيا صوفيا يوم الجمعة الماضي مرتديًا الطاقية البيضاء ومفتعلًا علامات الورع والتقوى فقط ليصدر هذا المشهد للإعلام رغم أنه دخل المسجد متوضأ بدماء السوريين والأكراد ومذابح الأرمن شاهد عيان على وحشية أجداده الأتراك أكثر من 2 مليون قتلوا وذبحوا على يد العثمانين..
إن أردوغان يلعب بهذه الرموز ليلعب بالأمن والسلم في المنطقة يرفع راية الإسلام والإسلام بريء منه ومن (سيف أرباش) خطيب الجمعة الذي إعتلى المنبر ليخطب الجمعة وفي يده سيف وظل ممسكًا به ولا أعلم ماذا يريد أن يقول؟ أن الإسلام إنتشر بحد السيف كما يردد أعداؤه؟ كان منظرًا بشع يسيء للإسلام والمسلمين لم أراه طيلة حياتي.
كما يسعى أردوغان لتحشيد الرأي العام في الداخل التركي الذي فقده خاصة مع إقتراب موعد الإنتخابات ويقدم نفسه كفاتح جديد ويسميه أنصاره أردوغان الفاتح وهو في واقع الأمر خليفة خائن وأكبر حليف لكل أعداد الإسلام وبالرغم من ذلك فأكثر من نصف الشعب التركي رفض تحويل آيا صوفيا لمسجد والذين كانوا يطالبون بذلك هم 30% فقط أي أن 70% كانوا يرفضوان وهناك أكثر من 200 شخصية عالمية وقعت على عريضة كبيرة للمحافظة على الوضع السابق للكنيسة فاسطنبول كما قالوا ليست بحاجة للمزيد من المساجد.
إن القضية لا تتعلق بالإسلام والمسلمين يجب التركيز على هذا وعلى الجميع أن ينتبه أن أردوغان يعبث بالإسلام كما عبث بقضايا الأمة العربية الحساسة كلها وخاصة القضية الفلسطينية ولنتذكر مسرحية السفينة مرمرة وحركة الانسحاب من مؤتمر دافوس ليظهر أنه مستاء من وجود شيمون بيريز بالرغم من أنه الشريك الأكبر لإسرائيل والعلاقات العسكرية التركية الإسرائيلية يعلمها الجميع والمناورات المشتركة مع إسرائيل يقوم بها لصالح من؟ من يكون العدو الافتراضي فيها بكل تأكيد الفلسطينين وعندما تُقصف غزة لا نسمع عن صواريخ أردوغان ولم يعيد فلسطين وفي النهاية يظهر بأنه حامي الفلسطينين وقد أدهشني خبر تهنئة قيادة فلسطينية كبيرة لأردوغان بإفتتاح آيا صوفيا كما ساءني تصريح الشيخ رائد صلاح الذي كنت أحترمه وأقدر كفاحه حينما وصف عودة السيادة على أيا صوفيا بأنها بشرى لعودة السيادة على المسجد الأقصى وتحرير القدس بالرغم من أن ما حدث لا علاقة له بالقدس ولا بالأقصى وهو يعلم ذلك جيدًا وهي مبالغة كبيرة يدفع بها أنصار أردوغان وماذا سيضيق للإسلام والمسلمين تحول كنيسة إلى مسجد؟ هل أعاد الأقصى؟ إن من يهلل ويصفق لإحتلال معلم ديني لا يحق له المطالبة بمساجد في أماكن أخرى لا يحق له التنديد بسطو إسرائيل على الأقصى يا شيخ رائد...
صدقًا ما حدث لا يخدم مصلحة الإسلام والمسلمين إن أردوغان وداعميه هم تجار دين ليس أكثر ويقدمون الإسلام المتصهين وهي مؤامرة لإختراق الإسلام من قبل الصهيونية العالمية التي ينتمي إليها أردوغان.
فهو كما وصفه (علي بابا جان) (رئيس حزب الديمقراطية والتقدم التركي بأنه يتلقى تعليماته من دول العالم وإختلق آيا صوفيا للتغطية على الأزمات الطاحنة في الداخل التركي).. حقيقة أنا حزينة جدًا لأن الإسلام أعظم وأطهر من إقحامه في هذه اللعبة السياسية فآيا صوفيا هي تجسيد حي لاختلاط الدين بالسياسة ولا علاقة لها بالدين أو الإسلام أو أي شيء وما تم من خطوات وما سيتبعها الهدف منه خلق فتنة سياسية تحت شعارات دينية وطائفية وكان الأولى بأردوغان غلق البارات والكازينوهات وصالات القمار والدعارة المرخصة بدلًا من القيام بهذه الأفعال التي تؤدي لاستعداء الآخر وجلب مزيد من الكراهية ولن يغير من حال الأمة تحويل آيا صوفيا إلى مسجد ولا يمكن اعتباره انتصارًا للمسلمين أبدًا.