سورة يوسفمن السورة الكريمة التي تبشر بأن أن الفرج آتٍ لا محالة مهما اشتدت المصاعب والابتلائات، وذلك من خلال بيان ما مر به سيدنا يوسف -عليه السلام- من شدائد وفتن ومصائب ابتداءً من قصته مع إخوته، وإلقائه في البئر، ثم انتقاله إلى بيت العزيز، وتعلق امرأة العزيز به ومراودته عن نفسه، مرورًا بدخوله السجن، وصبره على كل ما أصابه في سبيل الله، وتَحمُّل أعباء الدعوة إلى الله -تعالى-، وبعدها انقلاب الحال بخروجه من السجن عزيزًا كريمًا، وتوليه مُلكَ مصر، قال - تعالى: «وَكَذلِكَ مَكَّنّا لِيوسُفَ فِي الأَرضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأويلِ الأَحاديثِ وَاللَّـهُ غالِبٌ عَلى أَمرِهِ وَلـكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لا يَعلَمونَ».
سورة يوسف:
تعد قصة يوسف -عليه السلام- من أعظم قصص القرآن الكريم، فقد سماها الله -تعالى- أحسن القصص؛ لما فيها من الدلالات المهمة والعبر العظيمة التي يحتاجها كل مسلم، ولما فيها من العجائب، وتقلب الأحوال ما بين الضيق والفرج، والغنى والفقر، وذكر أمور الدنيا والآخرة، وتعد أهم المواضيع في السورة الكريمة:
أولًا: رؤيا يوسف -عليه السلام-: حيث تبدأ أحداث قصة يوسف بذكره الرؤيا لوالده يعقوب -عليه السلام-، كما في قول الله -تعالى-: « إِذ قالَ يوسُفُ لِأَبيهِ يا أَبَتِ إِنّي رَأَيتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوكَبًا وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ رَأَيتُهُم لي ساجِدينَ» فعلم والده أن هذه الرؤيا تخبر بكرامة يوسف عند الله -تعالى-، وأن الأحد عشر كوكبًا إشارةٌ إلى إخوة يوسف الأحد عشر.
ثانيًا: إخفاء الرؤيا بسبب حسد إخوة يوسف: بعد أن أول يعقوب -عليه السلام- رؤيا ابنه الصغير يوسف، وعلم ما فيها من الكرامة، أمره بأن يكتمها ولا يقصها على إخوته، كما جاء في قول الله -تعالى-: «قالَ يا بُنَيَّ لا تَقصُص رُؤياكَ عَلى إِخوَتِكَ فَيَكيدوا لَكَ كَيدًا إِنَّ الشَّيطانَ لِلإِنسانِ عَدُوٌّ مُبينٌ»، وعلل يعقوب -عليه السلام- طلبه بأنه يخشى على يوسف -عليه السلام- من حسد إخوته وكيدهم له.
ثالثًا: غيرة إخوة يوسف ومكرهم: بعد أن امتلأت قلوب إخوة يوسف حسدًا وحقدًا عليه بسبب محبة والدهم له، قرروا أن يتخلصوا منه بأي وسيلةٍ، فتآمروا على قتله أو إلقائه في الصحراء ليهلك بعيدًا عنهم، ويتفرغ لهم أبوهم فيعتني بهم، ويقضي أوقاته معهم، ثم يتوبوا بعد ذلك.
رابعًا: مؤامرة التخلص من يوسف: بعد حوارٍ دار بين إخوة يوسف قرروا أن يأخذوه معهم ويضعوه في بئرٍ بعيدةٍ، ثم يقولوا لأبيهم يعقوب -عليه السلام- أن الذئب قد أكله، وهذا ما حصل بالفعل، حيث وضعوا يوسف -عليه السلام- في البئر، ثم جاؤوا بدماءِ شاةٍ ووضعوها على ملابسه، ورجعوا إلى أبيهم يبكون، وأخبروه أن يوسف قد أكله الذئب، ولما رأى يعقوب القميص لم يجد فيه شقًّا أو تمزيقًا، فعلم أنهم كاذبون، كما دل على ذلك قول الله -تعالى-: « وَجاءوا عَلى قَميصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَل سَوَّلَت لَكُم أَنفُسُكُم أَمرًا فَصَبرٌ جَميلٌ وَاللَّـهُ المُستَعانُ عَلى ما تَصِفونَ».
خامسًا: خروج يوسف من البئر: وبينما يوسف -عليه السلام- جالسٌ على صخرةٍ في ذلك البئر؛ إذ مرت قافلةٌ بالقرب من البئر فأرسلوا أحدهم ليحضر الماء، فلما أتى البئر وجد يوسف -عليه السلام-، ففرحوا بما وجدوا، وأخفوه عن أعين الناس إلى أن وصلوا مصر، فباعوه لرجلٍ هناك بدراهم معدودة، واشتراه عزيز مصر وهو وزير المالية، وكان رجلًا عقيمًا، فأمر زوجته أن تكرم يوسف عليه السلام، فعاش في بيته مكرّمًا، وبعد أن بلغ أشدّه أصبح هو الآمر الناهي في بيت العزيز.
سادسًا: فتنة الشهوة والإغراء: بعد أن اكتمل عقل يوسف -عليه السلام- وجسده، وظهر جماله، تعلّقت به زوجة العزيز، فراودته عن نفسه، والمراودة تعني: الطلب برفقٍ ولين، فتعرض يوسف -عليه السلام- لفتنةٍ أشد من فتنة البئر والسجن، وهي فتنة الإغراء بالفاحشة، ولكنّه ثبت في وجه هذه الفتنة العظيمة ورفض أن يستسلم للشهوات ومكائد الشيطان، كما جاء في قول الله -تعالى-: (وَراوَدَتهُ الَّتي هُوَ في بَيتِها عَن نَفسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبوابَ وَقالَت هَيتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّـهِ إِنَّهُ رَبّي أَحسَنَ مَثوايَ إِنَّهُ لا يُفلِحُ الظّالِمونَ).
سابعًا: دخول السجن: آثر يوسف -عليه السلام- دخول السجن على الاستسلام لمكائد الشيطان وارتكاب الفاحشة، وقد كان -عليه السلام- داعيةً إلى الله -تعالى- حتى في سجنه، ونال حب رفقائه في السجن، وقد كان تأويله لرؤيا رفيقَيه سببًا في خروجه من السجن بعد أن شاء الله -تعالى- ذلك.
ثامنًا: أصبح عزيزًا لمصر: بعد أن قضى يوسف -عليه السلام- حاجة الملك في تفسير رؤياه، وبعد اكتشاف حقيقة إغواء امرأة العزيز له وبراءته من التُهم المُسندة إليه، رأى ملك مصر أن يجعله عزيزًا عليها، وقد ازدهر الاقتصاد في عصره ونما، وبعد مرور فترةٍ من الزمن حدثت مجاعة في البلاد، فاضطر إخوة يوسف المجيء إليه طلبًا للمساعدة، فعرفهم وهم له مُنكرون.
تاسعًا: لقاء يوسف بأبيه: بعدما عرف يوسف -عليه السلام- إخوته؛ بدأ يدبّر لأمرٍ في نفسه، فلما طلبوا منه المساعدة والنجدة، رفض أن يساعدهم إلا بعد أن يُحضروا أخوهم الصغير من أبيهم معهم، فعادوا إلى أبيهم وأخبروه بأنهم مُنعوا من الطعام حتى يحضروا أخاهم معهم، فتردد يعقوب -عليه السلام- بإرسال ابنه معهم وخشي أن يضيّعوه كما ضيعوا يوسف من قبل، ولكنه لم يجد حلًا بديلًا لإرساله معهم، فبعثه بشرطٍ وهو أن يأخذ منهم وعدًا أمام الله -تعالى- بأن يرجعوا به، ونصحهم أبوهم بأن يدخلوا من أبوابٍ متفرّقةٍ ولا يدخلوا من بابٍ واحدٍ حتى لا يُحسدوا لكثرتهم وجمال هيئتهم، فانطلقوا حتى دخلوا على يوسف عليه السلام.
عاشرًا: حيلة يوسف ليبقي أخاه في مصر: بعد أن جاء إخوته إليه، أمر يوسف -عليه السلام- أحد أعوانه بوضع مكيال الملك في أوعية أخيه، ثمّ نادى منادٍ للملك بأنّ هناك مكيالًا قد سُرق، وأن قافلة إخوته لن تمر حتى يتم تفتيشها، وعندما تم تفتيشها وُجد المكيال في وعاء أخيه، فلم يسمح لهم يوسف -عليه السلام- بأخذه، فاضطروا للعودة إلى أبيهم دون أخيهم، وعندما علم يعقوب -عليه السلام- بالأمر صبر واحتسب، وطلب من أولاده البحث عن يوسف وأخيه.
إحدى عشر: لقاء يوسف بأبيه: بعد أن توجه إخوة يوسف -عليه السلام- إلى مصر مرة أخرى طالبين من يوسف استرجاع أخيهم، أخبرهم يوسف بأنه هو يوسف وعاتبهم على ما فعلوه به وهو صغير، ثم ما لبث أن عفا وصفح عنهم، وأعطاهم قميصه ليضعوه على وجه أبيهم فيرتد إليه بصره بمشيئة الله، وبالفعل تحقّق ذلك، والتمّ شمل يوسف بأبيه عليهما الصلاة والسلام.
سورة يوسف الدروس المستفادة:
تشتملسورة يوسفعلى كثير من الدروس والعِبر، وأبرز هذه الدروس:
أولًا:قضاء الحاجات بالسر والكِتمان، وخاصة الأخبار التي رُبما تضر الإنسان؛ حيث أمر سيّدُنا يعقوب سيدَنا يوسف -عليهما السلام- بكتم الرُّؤيا التي رأى فيها سجود الشمس والقمر والكواكب له؛ حتر لا يكيد له إخوته كيدًا يضرُّه.
ثانيًا:الثبات على الحق ومُجابَهة الفِتن؛ فسيدنا يوسف -عليه اسّلام- بقي ثابتًا على دينه ودعوته ومنهجه أمام إغراءات امرأة العزيز وفِتَن السُّلطان، حتى إنه تحمل في سبيل ذلك آلام السجن، وقد كانت عاقبة ثباته على الحقّ أن مكّن الله له في الأرض يتبوّأ منها حيث يشاء.
ثالثًا:حقيقة الغيرة بين الإخوة التي قد تؤدّي إلى الضُّر، وأحيانًا محاولة القتل كما فعل إخوة يوسف؛ حيث قالوا: «اقتلوا يوسف..».
شاهد أيضًا:فضل سورة يوسف.. علي جمعة يوضح 6 دروس مستفادة
رابعًا:الفرَج بعد الشِدة واليُسر بعد العُسر سُنة إلهية للأنبياء والصالحين؛ فقد صبر يعقوب -عليه السلام- على بُعد ابنه وفقدانه، وكانت عاقبة الصبر الجزاء الحسَن في الدّنيا؛ حينما جمع الله شمل العائلة من جديد مع ما ينتظرها من الجزاء الحسَن في الآخرة.
خامسًا:خطورة الخُلوة المُحرَّمة بالمرأة؛ فهي من خطوات الشّيطان ، قال -تعالى-: «وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ».
سادسًا:تعبير الرُّؤيا بمثابة الفتوى؛ وذلك لِما ورد في السّورة في قوله -تعالى-: «قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ»، ولذلك قال العلماء لا يجوز لِمن لا يعرف في تعبير الرُّؤى أن يتكلّم فيما لا يعلم.
سابعًا:السعي إلى اتخاذ الأسباب الجائزة للنجاة من المصائب؛ حيث قال يوسف -عليه السلام-: «اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ»؛ حتّى يذكر من خرجَ من السّجن القصّة للملك، ويُجري الملك تحقيقًا في الموضوع، فيكون هذا هو سبب خروج سيّدنا يوسف من السّجن بريئًا.
ثامنًا:جواز طلب التمكين من المنصبإذا كان هذا المنصب يخدم شرع الله ويُبين قدرات يوسف -عليه السّلام- للملك دون أن يضُر نفسه، على أن تكون نيّته خالصةً لله، وقد ورد هذا في قوله -تعالى-: «قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ»، أما من طلب المنصب لنفسه، فيوكِله الله -جلّ جلاله- إلى نفسه ولا يُعينه، فيكون المنصب له فِتنةً.
سورة يوسف سبب نزولها:
ورد في بيانسبب نزول سورة يوسفعددٌ من الأقوال:
الأول:يرى بعض أهل العلم أنسورة يوسف-عليه السلام- نزلت ابتدائيةً من غير سبب، خاصة أن أغلب الروايات التي استدل بها المفسِرون في بيان أسباب النزول لا تصح، والذي دفعهم للاعتقاد بأن للسورة سبب نزولٍ مُعيَّن ما ورد في سياقها من الإشارة إلى أن هناك سائلين تُجيبهم هذه السورة، كما جاء في قوله -تعالى-: «لَقَد كانَ في يوسُفَ وَإِخوَتِهِ آياتٌ لِلسّائِلينَ».
الثاني:أن جماعةً من اليهود أرسلوا إلى كفار قريشٍ يطلبون منهم اختبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن يسألوه عن نبيٍ خرج من بلاد الشام إلى أرض مصر وعن تفاصيل قصته، فلما سأله مشركوا مكة أنزل الله -تعالى-سورة يوسف، وجاء فيها قصة يوسف -عليه السلام- كاملةً وبالتفصيل، على الرغم من ورود العديد من قصص الأنبياء -عليهم السلام- مجزّأة في سورٍ مختلفة، وقد بيّن الإمام القرطبي -رحمه الله- أن في ذلك حُجّةً ودليلًا على أن الله -تعالى- تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن مفرّقًا أو مجتمعًا، فعجزوا عن الإتيان بمثله في الحالتين.
شاهد المزيد: الحكمة من وصف سورة «يوسف» بـ«أحسن القصص» فى القرآن
الثالث:ذكر بعض المُفسِّرين أن اليهود سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن رجلٍ كان في الشام فارقه ولده فبكى عليه حتى عُمي، وسألوه عن خبره ومن يكون؛ فنزلت السورة، وفي روايةٍ أخرى أن اليهود سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أسماء الكواكب التي وردت في سورة يوسف.
الرابع:أن سبب نزولالسورة الكريمةأن الصحابة -رضي الله عنهم- سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقُص عليهم القَصص بعدما نزل عليهم الكثير من القرآن الكريم، فأنزل الله -تعالى- قوله: « نَحنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحسَنَ القَصَصِ بِما أَوحَينا إِلَيكَ هـذَا القُرآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبلِهِ لَمِنَ الغافِلين»، مصداقًا لما رُوي عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أنه قال: « أُنزل القرآنُ على رسولِ اللهِ، فتلا عليهم زمانًا، فقالوا: يا رسولَ اللهِ لو قصصتَ علينا؛ فأنزل اللهُ تبارك وتعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إلى قولِه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ؛ فتلا عليهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم زمانًا، فقالوا: يا رسولَ اللهِ! لو حدَّثْتَنا؛ فأنزل اللهُ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا... الآية، كلُّ ذلك يُؤمَرُونَ بالقرآن».