لم تنته احتجاجات السود والمتضامنين معهم في العديد من الدول الأوروبية وكندا وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، تجاه جريمة قتل جورج فلويد الأمريكي ذو الأصول الأفريقية "خنقا" تحت ركبتي شرطي أبيض أخرق قدم للمحاكمة وتتم مقاضاته الآن.
لكنها أخذت أكثر من حجمها في رأيي، وذهبت إلى مآلات بعيدة رغم المعارضة الشرسة من جانب البعض لما جاء بالمقال السابق "القضية ترامب وليست جورج فلويد".
والحاصل أني لست وحدي، الذي أرى أن احتجاجات فلويد ركبها "الهمج وكثير من اللصوص" ورغم نبل بعض الأهداف والشعارات التي رفعت فيها من جانب البعض إلا أنه تم استغلالها بشكل سىء للغاية. ولا مجال للتكرار عندما قال الرئيس ترامب، إذا بدأ النهب يبدأ إطلاق الرصاص وأنا معه، فلا يحق لكائن كان أن ينهب "متجري أو مسكني" أو يدمر ممتلكاتي الخاصة أو يدمر ممتلكات وطني العامة تحت إدعاء احتجاجات سياسية!
ولا يحق لكائن من كان، أن يقوم بإلقاء التماثيل في الأنهار وتحطيمها والادعاء أنها لا تناسب روح العصر.
إن الذين خرجوا لتحطيم تمثال "ادوارد كولستون" في بريستول جنوب غرب بريطانيا، وهو تاجر الرقيق الأشهر في القرن السابع عشر، لا يختلفون عن إرهابيو طالبان والقاعدة والدواعش الذين هاجموا ما أسموها بالأصنام في أفغانستان ودمروا متاحف هائلة، ودمروا تماثيل "بوذا"، وكذلك الدواعش الذين فعلوا هذه الأفعال الحمقاء الإجرامية في العراق، ونهبوا الآثار والمتاحف قبل سنوات قليلة في الموصل وغيرها.
إننا بالطبع لا نوافق على الرقيق ولا العبودية، وقد الغى الإسلام ذلك ثم انتصرت كافة إعلانات حقوق الانسان لإلغاء تجارة الرق والعبودية وكان هذا تطورا إنسانيا وحضاريا هائلا.
فمع تطور الحضارات، توصل الإنسان إلى ضرورة الغاء نظام الرق والعبودية البغيض، وضمان حقوق متساوية للجميع سواء كانوا سودًا أو بيضًا أو حتى "حُمر"
لكن القيام بحرق التماثيل أو تدميرها مثلما حدث مع "كولستون" ينم عن ضيق أفق. والمصيبة أنه لم يتوقف عند رمزية كولستون بل امتد إلى العمل على تشويه تمثال "ونستون تشرشل العظيم" في بريطانيا. وهو واحد من أهم القادة الأوروبيين الذين وقفوا في وجه النازية وهتلر وكل هذا تحت دعاوى جاهلة.
إننا نمقت العبودية ونظام الرق والعنصرية، والمجتمعات المتحضرة لا يمكن أن تعود للوراء، لكن الذي لا يمكن قبوله ولا هضمه ولا تقبله، هو النفخ بأكثر مما هو مقبول وممكن في قضية "جورج فلويد" ونعيد وقد كتب في ذلك الموضوع قامات دستورية وقانونية وتاريخية عظيمة. عن أن السود اليوم ومنذ ستينيات القرن العشرين، ومنذ وقفة الرئيس "كيندي" والتي طرح فيها رؤيته لأمريكا، أكثر حرية وانفتاحا وانسانية عام 1961، وبعده القس مارتن لوثر كينج الذي رفع صوته بأوجاع الأمريكيين السود، ودعا إلى اندماجهم في المجتمع الأمريكي وتمكينهم من حقوقهم كمواطنين، فقد انتهت العبودية في أمريكا ولم يعد لها وجود إلا في عقول تجار الاحتجاجات، وجاء صدور قانون الحقوق المدنية في عهد الرئيس الأمريكي ليندن جونسون عام 1964 والذي حظر التمييز بين المواطنين عند تسجيل أنفسهم كناخبين، ثُم قانون التصويت عام 1965 الذي حظر ممارسات التمييز بين المواطنين عند ممارسة حقهم في الانتخاب، ليؤكد على ضمان حقوق المواطنين السود في المشاركة في الانتخابات، وأن يُصبحوا قوة مؤثرة في اختيار المرشحين.
إن ما هو موجود اليوم، وفي عقول بعض الغوغاء والعامة من الشعب الأمريكي هى "بقايا ثقافة استعلاء البيض" وبالخصوص في الولايات الجنوبية من أمريكا، والتي كانت معقل العبودية والرق على مدى قرنين من الزمان.
والسائد حرية للجميع وتمكين للجميع، ولا يمكن أن نغفل أن مجتمعا أمريكيا عظيما مثل المجتمع الأمريكي وعلى حد إلهة الفوضى الخلاقة – كوندليزا رايس – وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، هو الذي أتاح لها، ويتيح لأي شخص من خلفيات متواضعة على حد قولها، أن يحقق أحلامه وحدث هذا معها وهى سوداء، فوصلت مستشارة للأمن القومي الأمريكي، وبالتزامن مع وجودها ظهر المنصب الرفيع لكولين باول وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، وقبل ذلك كان رئيسا لأركان حرب الجيش الأمريكي وهو أخطر منصب في الجيش الأمريكي، والاثنان أسودان، وفي حين زعم "باول" مؤخرا خلال موجة الاحتجاجات أن هناك حقوق منقوصة للسود وهاجمه الرئيس ترامب، لنفاقه ولأنه صاحب فضيحة غزو العراق، وتدميره بالكلية قالت رايس- وهى على حق إن أمريكا ليست ساحة "ميدان السلام السماوي في بكين" حيث تم دهس المواطنين، الذين اختلفوا مع الحكومة. ولا يتشابه حادث جورج فلويد مع غزو شبه جزيرة القرم حيث قامت "موسكو" باحتلال أراضي يمتلكها جيرانها. كما أنها ليست الثورة الخضراء في إيران حيث تم قتل المواطنين عن عمد لمجرد أنهم لم يتفقوا مع الحكومة الثيوقراطية حكم الملالي في طهران.
ثم هاهو "جونسون" رئيس وزراء بريطانيا، وقضية جورج فلويد لم تكن عنده، ولا حدثت في بلده ولا جريمة من الشرطة البريطانية، خرج ليقول علنا، البلطجة أفسدت الاحتجاجات ضد العنصرية، بعدما حدثت جرائم مروعة في بريطانيا وعشرات الفيديوهات تصور مهازل، خرجت على مايسمونه للاحتجاج على العنصرية!!
ونعود للبدء.. إن العبودية غير موجودة في أمريكا ولا محل لها، والعنصرية ربما تكون موجودة عند بعض المرضي ومن بقايا ثقافة كانت سائدة لعشرات السنين، لكن هذا تغير الآن وجرائم النهب والسرق وتحطيم التماثيل لن تغير من التاريخ شيئا. وقضية فلويد ركبها "همج" خرجوا بها عن نطاق سلميتها.