التطورات المتلاحقة في الشأن الليبي لا تكاد تتوقف، وليبيا بالنسبة لمصر ليست فقط مسألة أمن قومي وهى قضية شديدة الحساسية، ولكنها تحولت إلى مطمع لقوى إقليمية وعالمية كبرى. والقضية أخطر من سوريا بكثير، وليست المشكلة في تحولها إلى سوريا جديدة فقط، وفق تصريحات وزير الخارجية الفرنسي لودريان.
فمع سوريا ومع كل اختلافي مع النظام السوري، بقيادة بشار الأسد وطريقة إدارته لما سمي بالربيع السوري ورفضه حتى اللحظة رغم تحقيقه الانتصار على المعارضين والمتمردين والمتآمرين، السير في طريق التسوية السياسية، فدمشق كان لها زعيم- - أيا كان الخلاف معه – قادر على أن يسير بسفينة الوطن نحو وجهة معينة نعارضه أو نؤيده فيها، لكن ليبيا الآن ليس لها زعيم ولكن "ملوك طوائف" بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وهنا الخطر الشديد على ليبيا، فكل ملك وراءه حلفاؤه ومن يقودونه ومن يدفعونه لوجهة بعينها.
فالحكومة المؤقتة في الشرق والتي يقودها عبد الله الثني ومعها مجلس النواب المنتخب بقيادة عقيلة صالح، وفوقهما الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر لهم وجهة في ليبيا. ووراءهم حلفاؤهم وفي المقدمة منهم روسيا والإمارات، وفي الجهة الغربية طرابلس، هناك حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج، والرجل أضعف مما يمكن تصوره، وطوق الإنقاذ الذي فرح به بعد 5 سنوات كاملة من الفشل والهزيمة في إدارة أمور ليبيا، وبعد سنوات من اتفاق الصخيرات بالمغرب، جاءه من قطر وتركيا وجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية في ليبيا، والجماعة الليبية المقاتلة التابعة لتنظيم القاعدة الإرهابي. أما الجنوب الليبي فلا يمكن تصنيفه في اللحظة الحالية باعتباره تابعا للغرب أو للشرق، وإن كان خدماتيا وإداريًا تابعا لحكومة طرابلس.
الوضع في ليبيا منذ اغتيال الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي 2011 وضع يرثى له، فالبلد شاسعة وغزيرة الموارد وغنية بالنفط والثروات بدون حدود وبدون رئيس، وحلف الأطلنطي وبتحريض قطري تدخل لإزاحة القذافي بالعنف والقوة وضرب منزله بالعزيزية استجابة لمؤامرة كشفتها هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة بنفسها، وهى جزء من المؤامرة، قادها ساركوزي الرئيس الفرنسي الأسبق وحمد بن خليفة أمير قطر السابق.
المهم في هذا التردي الأمني والسياسي والاقتصادي ترنح ليبيا من حفرة إلى مستنقع إلى هوة سحيقة. ما زاد الطين بلة خلال الساعات الأخيرة، هو ما يتبدى من صراع ساخن يأخذ طريقه بين موسكو وواشنطن على أرض ليبيا.
فبعد سنوات من الإحجام الأمريكي عن الظهور في المشهد الليبي، وترك الساحة لروسيا وإيطاليا وفرنسا وتركيا بدأ الإمبراطور الأمريكي في الظهور بقوة، فالقيادة العسكرية الأمريكية بأفريقيا "أفريكوم"، شنّعت خلال الساعات الأخيرة على روسيا بأنها أمدت الجيش الليبي الذي يقوده الجنرال خليفة حفتر بنحو 14 طائرة حربية حديثة، وأنه تم تغيير طلاء الطائرات حتى لا يعرف مصدرها، وفقا لما نشر في "رويترز" وكافة الوكالات والأنباء العالمية، في حين رد الناطق باسم الجيش، أحمد المسماري، مكذبا الرواية الأمريكية وقائلا بوضوح: إن الجيش لم يتسلم طائرات حربية مقاتلة جديدة، وأنه قام فقط بإصلاح ما عنده لكنه لم يتسلم ميج29 ولا طائرات سوخوي.
الأمم المتحدة من ناحيتها، رأت أن القضية تكبر في ليبيا، وأنها لم تعد بين روسيا وحكومة الشرق في ليبيا من ناحية، والسراج وتركيا وقطر وحكومة طرابلس من ناحية أخرى ولكنها تتجه لتكون مواجهة بين واشنطن وموسكو على أرض ليبيا ولذلك خرج بيانها الأخير، ليؤكد أنها ليست في وضع يؤكد أو ينفي موضوع تسلم الجيش الليبي في المنطقة الشرقية طائرات حربية جديدة!.
الأزمة لا تتجه فقط إلى "التدويل" فقد حدث هذا منذ نحو 5 أعوام وأكثر، ولكنها تتجه لتكون صراعا مباشرا ومواجهة عسكرية حيّة بين قوى كبرى على أرض ليبيا وليس صراعا بالوكالة فقط كما يقولون.
في نفس الوقت، فإن تحذيرات وزير الخارجية الفرنسي جان ايف "لودريان"، بأن سيناريو سوريا يتكرر في ليبيا وأن الوضع مقلق جدا، وبالطبع ليس خافيا أن فرنسا ضالعة في الصراع في صف حكومة الشرق في ليبيا، كل هذا يؤكد أن الأمور تتجه لمزيد من التدهور.
والحاصل أنه ما لم يكن هناك ضغط دولي في اللحظة الراهنة، للقبول بوقف إطلاق النار عند هذا الحد والبدء في السير في خطوات التسوية السياسية، وفقًا لمقررات جنيف التي أقرتها قمة برلين، وقطع فيها غسان سلامة شوطا لا بأس به، وإجبار الوالي العثماني أردوغان على التراجع عن أوهامه فإن ليبيا ستسقط في "عشرية جديدة" من الفوضى.
بوضوح: ما لم تُجبر أطراف الصراع الليبي المحلية في رأيي على الجلوس إلى طاولة المفاوضات دون أن يكون هناك "تسخين" وضغط على كل طرف على حدة لسحق الطرف الآخر وهذا لن يحدث، فإن ليبيا ستفلت تماما من يد أصحابها حتى ولو كانوا إخوة متعاركين في حرب أهلية طاحنة.
وأرى أنها ستقسم لـ "مستعمرتين" أمريكية وروسية خلال 5-10 سنوات من الآن، وبعدما أصبح واضحا أن واشنطن في صف حكومة الوفاق وتركيا، وموسكو من البداية في صف الحكومة المؤقتة و"الكعكة" غالبا سيتم تقسيمها وفق النسب الموجودة تحت الأيدي ولن تزيد جولات الصراع المقبلة عن مدينة كبرى تسقط ثم تستعاد من جديد، وهكذا دواليك في مستنقع مرير من الفوضى دون نصر حاسم.. هذا إن لم تتوقف آلة الحرب ويجبر حفتر والسراج إلى الجلوس على طاولة المفاوضات.