الشخصية المحظوظة هي التي تتاح لها فرصة التعامل المباشر مع فئتين ألا وهما فئة الأكاديميين وفئة غير الأكاديميين، فمن خلال هذا التعامل سيتم إدراك الكثير من المفاهيم الحياتية، فلكل من الفئتين أسلوبه في التعامل، وطريقته في التفكير والأداء.
فنظريًا هناك أهمية لتكامل أوجه التعامل، كما أن العقل يقول إن التعاون الأمثل بين كليهما سيقود إلى أفضل النتائج، لكن واقعيًا، فالأمر يختلف تمامًا عما يجب أن يكون عليه الحال.
ويعود عدم التوافق بين الطرفين إلى عائق رئيسي، ألا وهو وجود حاجز نفسي يغلف تلك التعاملات، ولم أضيف كلمة قد قبل فعل يغلف، لانتفاء صفة الشك، لأنه بالفعل هذا الحاجز موجود، على خلاف ما قد يظهره وتبديه الوجوه.
ففئة الأكاديميين تنظر إلى مخرجات عمل غير الأكاديميين من برج عالي، ليضعوا النظرية والأرقام والحسابات فوق كل اعتبار، وقد يغفلوا على استحياء في خضم معادلاتهم الواقع العملي والأثر على المواطن الذي لا يهمه مجرد النظر إذا ما كانت أرقامهم سلبية أو حتى إيجابية، فما يهم المواطن هو العائد الفعلي والأثر المباشر على حياته هو وحياة أسرته، ووسط زحام النظريات والنماذج والمعادلات النظرية التي يجيدها الأكاديميين هناك سعي بطيء يهدف إلى الوصول لنتائج واقعية، إلا أن تلك النتائج فرص الوصول إليها في حد ذاتها قد تكون ضئيلة خاصةً إذا ما علمنا أن توافر المعطيات الدقيقة هو شرط قد ينتفي وجوده من الأساس، وهو الأمر الأكثر احتمالية.
وعلى جانب آخر من التعاملات هناك فئة غير الأكاديميين الذين ينظرون إلى مخرجات عمل نظرائهم من الأكاديميين من منظور بعدها عن الواقعية والتي أدركنا مسبباتها، فضلا عن إيمانهم بجمودها وحدتها، ومعهم حق، فإذا ما لم تتوافر المعطيات الدقيقة، فمن أين ستأتي النتائج الواقعية؟
فغير الأكاديميين مقتنعين تمام الاقتناع بأن فئة الأكاديميين يخاطبون أنفسهم، ووجودهم نوع من الشياكة، وفي المقابل ينظر لهم الأكاديميين نظرة استعلاء يأتي منبعها من إيمانهم الأكيد بأنهم ليسوا على ذات القدر من العلم الذي يتمتعون به، لتسيطر على تعاملات الطرفين مقولة "ناخدهم على أد عقلهم".
ويأتي العائق الثاني المغلف لتعاملات كلٍ من الفئتين، في أن كل من الطرفين يدرك نواقصه ولكنه يخفي تلك الحقيقة، ويسعى متسترًا إلى أن يستحوذ على هوية الطرف الآخر ليستكمل ما ينقصه، دون فقد لهويته الأصلية التي يعتز بها، لتبدو الصورة وكأن هؤلاء يحاولون الاندماج في جلباب المشهد الواقعي محاولين التخلص من الرداء النظري، وهؤلاء يسعون إلى ارتداء معطف النظرية محاولين استكمال المظهر الحضاري، لنصل في النهاية إلى تشوه المشهد برمته، لا الأكاديميين ينجحوا في الوصول إلى الواقعية المطلوبة، ولا غير الأكاديميين يستطيعون إتقان دور العلماء.
فما أريد أن أصل إليه أنه ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، وهناك قدرات بشرية، ولا يوجد فرد يستطيع أن يقوم بكافة المهام، ولن تجد إنسانا على دراية بكافة الأمور، ولا مجال للفهلوة أو الاستقواء والاستعلاء، فتلك الصفات إن أصابت مرة فحتمًا ستلقي بصاحبها إلى التهلكة في المرات التالية، فكما أنه لكل مقام مقال، فإن لكل مهمةٍ رجل، فليس كل الأكاديميينفقهاء عصرهم، ولا كل غير الأكاديميين جهلاء قريتهم، فعلينا أن نصفي نوايا التعامل دون تعمد لتهميش الأدوار، فالأدوار المتكاملة بلا شك ستسهم في نهوض المجتمع بأثره، أما أسلوب حب الظهور والصدارة المصحوب بالتضليل والتهميش ومن ثم الجور على حقوق الطرف الآخر أو الطمع في الوصول أو الاستحواذ على مهام آخرين دون مجهود أو جداره أو حق يذكر فلن تجلب لنا سوى الحسرة والانتكاسة.
أعلم أن كلماتي إذا ما تطرقت لها من الناحية التطبيقية فلن تخرج عن نطاق سطور هذا المقال، لتحظى بصفة نقاء وسذاجة النظرية، ولكنني آمل أن تصل إلى أعماق التلوث الواقعي الذي لم ولن يغيره شيء.