ليس بجديد على الشركة الوطنية مصر للطيران، صاحبة مشوار الثمانِية والثمانين عاما، الذي أتمته قبل أيام، أن تُسخر أسطولها الجوي لخدمة الوطن وأبنائه.
فمنذ اليوم الأول لتأسيسها، بدأت تنفض عباءة السيطرة الانجليزية عن هواء مصر وجوها الصافي الذي احتكرته لسنوات دون رادع، حتى أنشأ الكيان "مصر للطيران" وأصبح منذ تلك اللحظة الدرع الداعم والساند لقرارات الدولة المصرية التي اتخذتها على مدار تاريخها في أحلك الظروف والأزمات سواءً كانت في أوان الحرب أو الآن في أيام الوباء.
بالحديث عن فترة
الحرب، نعود إلى الوراء قليلا حيث عام 1936م، بعد ميلاد الناقل الوطني لجهورية
مصر العربية بنحو 4 أعوام، حيث الحرب العالمية الثانية والموقف الدولي المضطرب مع غزو
إيطاليا لأثيوبيا والحرب الأهلية الأسبانية وفشل عصبة الأمم التي أنشئت عقب الحرب العالمية
الأولى في إحلام السلام بالعالم، حينها بدا شبح الحرب بين انجلترا وفرنسا من جانب وألمانيا
وإيطاليا من جانب آخر يلوح في الأفق، فكانت مصر في صف الجانب الأول نتيجة النفوذ
البريطاني المهيمن عليها في تلك الفترة، ورغم كل المعوقات التي وضعت أمام الشركة الوطنية
حينها إلا أنها خرجت منتصره من تلك الحرب ومن السيطرة الانجليزية أيضا بإنشاء
أقسام فنية وصيانة تجاوزت حدود نشاطها، واستطاع الفنيون المصريون تخطي الخبرات الانجليزية،
وتمكنت الشركة بخطوات ثابتة من اقتناص استقلالها من السيطرة البريطانية قبل حلول ثورة
عام 1952، وكان الاحتفاء بتمصير الشركة لا يقل حدثًا عن تأميم قناة السويس من الفرنسيين.
منذ تلك اللحظة، كتب تاريخًا جديدًا لمصر للطيران حيث بدأت تخطو إلى الأمام نحو التطوير ومد الجسور والخطوط الجوية، واستطاعت أن تتخطى كل الصعاب حتى جاءت حرب 1967م وتأثرت اقتصاديات الشركة بظروف الهزيمة، التي حالت دون شراء قطع غيار لطائراتها الغربية لعدم توافر العملة الصعبة، هو ما دفع الشركة إلى دراسة خطة للبحث عن طرق جديدة للخروج من الأزمة بأقل الخسائر عن طريق عقد صفقات جديدة رغم محدودية الاقتصاد، لكنها استطاعت أن تنجح في ذلك بتزويد أسطولها بأربع طائرات من طراز بوينج B707-320C، الذي استطاعت من خلال ضمه تشغيل خط الشرق الأقصى ليصل بين القاهرة وطوكيو وافتتح عام 1968
ومن انتصار إلى كبوة
أخرى، أخذت مصر للطيران تخطو وتتنقل خلف ظروف الدولة والأوضاع التي تحكمها، فجاءت حرب
الخليج عام 1990م وأثرت على اقتصاديات الشركة وواجهت صعوبات بسبب ارتفاع أسعار الوقود
وظهور حالة الكساد العالمي الذي قلل من الاقبال على السفر، فضلا عن تأثر العمالة المصرية
بالدول العربية بسبب الحرب، وألغيت ميزة إعفاء مصر للطيران من رسوم الهبوط والإيواء
بالمطارات المصرية وهو ما كبدها خسائر وصلت حينها إلى نحو 26 مليون جنيه سنويا.
فضلا عن انخفاض الحركة
السياحية بسبب العمليات الإرهابية، والذي تزامن أيضا مع إلغاء بعض الخطوط ودمج البعض
الأخر لظروف خارجه عن إرادة الشركة تتعلق بالأوضاع في ليبيا، واستمرت هذه الأوضاع حتى
عام 1994، بلكاد استطاعت بعدها مع أواخر التسعينيات أن تستفيق من تلك الكبوة وتجاوزت
الأزمة وصارت شبكة خطوطها تغطي أهم المدن والعواصم في العالم واتسعت استثمارات الشركة أسوة بالشركات العالمية.
وانقضت التسعينيات
وجاءت الألفية الثالثة، تجر خلفها أحداث الثورات العربية، ففي بداية عام 2011م، كان
استكمال للنهضة الكبيرة التي حققتها مصر للطيران خلال الأعوام التي سبقته، حيث وصل
أسطولها إلى 73 طائرة. جاءت أحداث 25 يناير وما تبعها من أحداث أثرت على حركة السياحة
والسفر، تسبب في إلغاء الشركة جميع رحلاتها الداخلية والدولية، ومع رحيل أعداد السياح
العرب والاجانب من مصر في تلك الفترة تراجعت رحلات الشركة إلى أدني مستوياتها وأدى
إلى خسائر ضخمة وصلت إلى مليار وثمانمائة مليون جنيه.
وبالتزامن مع تلك
الأحداث المضطربة داخل مصر، جاءت أحداث ليبيا لتضيف أعباءً إضافية على الشركة، حيث
قامت حينها بتسيير جسر جوي بين طرابلس والقاهرة لعودة المصريين المقيمين هناك، استطاعت
نقل ما يقرب من 80 ألف مصري خلال 22 يوما على متن 337 رحلة جوية، هو ما جعلها تضع
خطة للتعامل مع هذه الأزمات المتتابعة وعملت على اتجاهات مختلفة في ظل تلك الظروف.
ومرت الثورات العربية
بحلوها وبقى مرها من تباعات وجاء عام 2016، حاملا بين طياته أزمة اقتصادية جديدة شهدها
الاقتصاد المصري، وهي تحرير سعر الصرف الجنيه المصري، والذي أدى إلى تغييرات كبيرة
في أسعار خدمات الشركة وزيادة قيمة الضرائب المفروضة على التذاكر، ومن قبله استغلال
بعض شركات السياحة لانخفاض قيمة الجنيه وقيامهم بشراء تذاكر السفر من الخارج للاستفادة
بفارق العملة وهو ما يعرف بتذاكر السوتو، لكنها أثرت سلبيا على إيرادات المكاتب
الخارجية للشركة فأوقفها وزير.
قابل تلك الأزمة
أيضا، تقلص كبير في خطوط الشركة بسبب الصراعات والحروب الدائرة في المنطقة والتهديدات
الأمنية للطائرات واستمرار توقف خطوط طرابلس وبنغازي بليبيا وصنعاء باليمن ودمشق وحلب
بسوريا، وانخفاض رحلات أربيل وبغداد بالعراق.
ولم يمر الكثير
على تجاوز مصر للطيران، كل تلك الضربات التي تأتيها تباعًا واحدة اقتصادية وأخرى
سياسية، حتى لحقت بها أزمة جديدة لكنها هذه المرة أشد قساوة من المرات السابقة، فإذا
كانت الشركة تكبدت خسائر تجاوز المليار جنيه نتيجة أحداث 2011، فإنها خلال العام الجاري
2020م، قاربت خسائرها من الملياري جنيه، ولكن هذه المرة لم تكن خسارة ناجمة عن حرب
أو ثورة لكنها جائحة وبائيه لم تكن في الحسبان أطاحت بكيانات كبرى شركات الطيران حول
العالم وكبدتهم خسائر فادحة، وأوصلت حالة العمالة بها إلى أوضاع حرجة.
فيروس كورونا المستجد،
هو تلك الجائحة الوبائية التي هاجمت قطاع الطيران وآخر الصدمات الحديثة التي
يعيشها خلال هذه الأيام، فهزت كيانه وتسبب في وقف جميع رحلات الشركة الوطنية الدولية
وإلغاء الكثير من الرحلات الداخلية، بسبب العزوف عن السفر خشية العرضة لخطر الإصابة
بالفيروس القاتل المستشري بدول العالم، وتسبب في إزهاق مئات الأرواح داخل مصر
والآلاف خارجها.
وفي الوقت الذي راحت
فيه كيانات عالمية كبرى تعلن إفلاسها أو تسريح عمالتها مضطرة ومجبرة أمام تلك
الأزمة، كانت مصر للطيران، درعا قويًا يقف خلف الدولة المصرية معلنًا تسخير كل إمكانياته
وأسطولها الجوي، لإجلاء المواطنين العالقين في جميع دول الخارج، وقبل أن تنفذ
الحكومة المصرية قرار تعليق الرحلات الجوية إلى المطارات المصرية، لوقف زحف تفشي
الوباء القاتل، راحت الشركة الوطنية تُسير طائراتها إلى هنا وهناك خلال الـ 72
ساعة الأخيرة التي تسبق ميعاد الوقف، تحديدا خلال الفترة ما بين 16 إلى 19 مارس
المنقضي، وسيرت نحو 476 رحلة دولية وداخلية في الاتجاهين، ولجأت إلى تكبير طرازات
طائراتها على بعض الوجهات، فضلا عن زيادة الترددات، لنقل أكبر عدد من المسافرين
والمصريين الراغبين فى العودة إلى مصر قبل وقف الطيران.
ومع وصول آخر
رحلة قادمة من الخارج، يوم 19 مارس 2019، تحديدا كانت عقارب الساعة تشير إلى
الثانية عشرة ظهرًا، أطلقت أبراج المراقبة الجوية بالمطارات المصرية صافرة تعليق
الطيران من وإلى مصر، لأول مرة في التاريخ لأجل غير مسمى، ولم يمر 24 ساعة على
تعليق الطيران، كانت مصر للطيران بتوجيهات من القيادة السياسية وتعاون مع وزارات
الدولة المختلفة، تعد لجسر جوي استثنائي إلى مختلف دول العالم بالتتابع لإجلاء
كافة العالقين بالخارج بسبب تلك الجائحة الوبائية كورونا المستجد، التي أجبرت دول
العالم على غلق منافذ الحركة الجوية بين الدول وبعضها، وتمكنت الشركة الوطنية
وشركة اير كايرو التابعة لوزارة الطيران المدني، من إعادة نحو 25 ألف مصري من
العالقين بدول العالم، خلال 60 يوما وتحديدًا الفترة ما بين 20 مارس الماضي حتى 21
مايو الجاري، وذلك على متن 135 رحلة جوية استثنائية.
لم تقف مؤازرة
مصر للطيران للدولة المصرية، في فترة وباء كورونا عند تسيير رحلات جوية استثنائية فقط لإعادة العالقين بالخارج، لكن دعمها تخطى حدود تحريك الأسطول الجوي، وساهمت
بشركتها التابعة "الصناعات المكملة" في تصنيع 5 آلاف قطعة قماش تشمل
ملايات وأكياس وسائد لتوزيعها على بعض مستشفيات العزل التي تستقبل الحالات المصابة
بفيروس كورونا، وتحارب من أجل شفاء المصابين في ظروف استثنائية صعبة وسط تحديات
كبيرة تواجه الدولة المصرية.
وكعادتها مصر للطيران، أعلت من مسئوليتها المجتمعية تجاه الدولة المصرية، لتؤكد في كل مرة أنها جزء لا يتجزأ من رؤيتها تجاه الوطن ودورها كشركة وطنية يقتدي بها الكثيرون، منذ نشأتها عام 1932.